اخبار الامارات

قفزات التسلح وتطور سياسات الدفاع الصينية ‹ جريدة الوطن

 

حقبة شي:

قفزات التسلح وتطور سياسات الدفاع الصينية

 

 

 

 

سعت الصين من وراء العرض العسكري الأضخم في تاريخها الحديث إلى توجيه رسائل استراتيجية مباشرة لا تحتمل التأويل، فقوتها العسكرية تمضي بثبات على مسار الصعود كقوة عظمى، وكإنجاز لـ”حقبة شي”، الذي وضع في عام 2014 خطة للتطور والتوسع الهيكلي للجيش كقوة احترافية عالمية، وتنمية قدرات الدفاع والصناعات العسكرية بالاعتماد على تطبيقات الثورة التكنولوجية. وفي أغسطس 2025 تتحول تلك الخطة إلى واقع يشهده العالم.

لماذا الآن؟

تجادل العديد من تقديرات الدفاع الدولية بأن خطة “شي” كانت تتطلب الانتظار عقداً آخر بحيث تصبح عند نقطة تعادل في ميزان القوة مع الولايات المتحدة، دلالة ذلك أن العرض العسكري شمل أسلحة لا تزال قيد البناء والتطوير، منها مخزون الذراع الجوي لـ”الثالوث النووي” الذي تم الإعلان عن استكماله للمرة الأولى.

لكن التبريرات الصينية تشير إلى أن تفكير بكين ينطوي على عدة دوافع، منها تطورات بيئة الأمن الدولي لاسيما المحيطة بالصين، وبالتالي العامل الجيوسياسي يلعب دوراً، بالنظر إلى مسار تطور الحرب الروسية الأوكرانية والقفزات الدفاعية الموازية التي يحققها حلفاء الولايات المتحدة حول الصين، كاليابان وكوريا الجنوبية، إضافة إلى قضية تايوان.

ثمة فريق آخر، يجادل بأن الصين لا تفكر بالطريقة الغربية، فبكين وإن غيرت من سياساتها الدفاعية، فهي لا تزال ملتزمة بعقيدتها الدفاعية القائمة على أساس “الدفاع النشط”، وأن كل ما يجري هو مجرد تحسين وتعزيز لهذا الأساس الاستراتيجي، انطلاقاً من أن الدفاع النشط يتطلب مواكبة التحديات الناشئة في المساحات البينية لحالة الدفاع والردع الهجومي وهي العمليات التكتيكية، وهو ما عبرت عنه بعض التقديرات الصينية برفع مستوي “الردع الأدني”.

سردية جدلية:

على هامش العرض كانت بكين تعيد تأطير سردية الحرب العالمية الثانية، رغم حركة التاريخ، وتقلبات الجغرافيا في محيطها بين مشهدي بداية ونهاية الحرب، فقد تم استدعاء وثائق مثل إعلان القاهرة (1943) وإعلان بوتسدام (1945)، وهي الوثائق التي تعتبرها الصين أسانيد قانونية تدعم سيادتها على تايوان، حيث تضمنت النص على إعادة تايوان إلى الصين بعد أن كانت تحت الاستعمار الياباني، حتى وإن كانت هذه الوثائق بطبيعتها السياسية غير ملزمة قانونياً ولم تحدد الوضع النهائي للجزيرة.

في المقابل، تصر تايبيه ومعها شركاء غربيون مثل واشنطن على أن هذه القراءة تحريف متعمد لوثائق الحرب العالمية الثانية، مشيرين إلى أن معاهدة سان فرانسيسكو (1951) لم تنص على نقل السيادة على تايوان إلى أي طرف، وأن جمهورية الصين الشعبية لم تكن قائمة وقت صدور تلك الاتفاقيات، ما يجعل استناد بكين إليها موضع تشكيك قانوني. غير أن القيمة الاستراتيجية لهذه السردية بالنسبة للصين لا تكمن في بعدها القانوني فحسب، بل في قدرتها على ربط القوة العسكرية المتنامية بشرعية تاريخية متجددة.

من “الدفاع النشط” إلى “كسب حروب المستقبل”

تعتمد بكين عقيدة “الدفاع النشط” التي تمزج بين الموقف الدفاعي الصارم وقدرات تكتيكية مرنة تسمح بالتحرك في مساحة بينية بين الدفاع والردع الهجومي. وقد أعاد العرض صياغة هذه الفكرة في إطار تقني محدث يضع الحروب غير التقليدية (السيبرانية)، والفضائية، والمعلوماتية في مركز التخطيط. بهذا المعنى، تسعى الصين إلى خفض عدم اليقين العملياتي عبر توسيع طيف الخيارات، لا عبر تغيير جوهر العقيدة المعلنة. في هذا الصدد أشار الجنرال (وو زيك) أحد أعضاء رئاسة الأركان الصينية إلى أن الهدف من العرض العسكري هو “كسب حروب المستقبل”، وهي حروب غير تقليدية لا تتوقف على العامل الجيوسياسي، وبالتالي يتعين على الجيش الصيني في ميادين غير تقليدية.

ولدى الصين أكبر جيش عامل في العالم حالياً يصل إلى مليوني فرد، هناك من يري أن تنمية القدرات في عصر التكنولوجيا لا يتطلب كل هذا الحجم البشري، فالجيش الأمريكي يقلص العامل البشري لصالح تلعب فيها الآلة والروبوتات دوراً محورياً، بما يقلص من حجم العنصر البشري حيث وصل العام الحالي إلى أدني مستوي له تاريخياً بنحو 1.3 مليون فرد عامل، مع الاعتماد على المزايا النوعية للقدرات البشرية.

الاعتبارات الجيوسياسية

تشير الوثائق البيضاء “China’s National Defense in the New Era” إلى أهمية البعد الجيوسياسي، لذا يفسر انتاج لعدد كبير من القطع البحرية الصغيرة لسرعة الانتشار وللتعامل مع التهديدات في البيئة البحرية في المياه الساحلية والمحيطة، على العكس من الولايات المتحدة التي تحتاج إلى انتاج قطع بحرية كبيرة لشحن معدات وأفراد والإبحار بهم لمسافات طويلة. رغم ذلك تتوسع الصين في بناء القطع الكبيرة (مدمرات، حاملات طائرات)، في دلالة على بناء قدرات بحرية للمياه الزرقاء (أعالي البحار)، وهو أيضاً متغير لم يكن وارداً في إطار السياسات الدفاعية التقليدية أو المتعارف عليها.

قدمت الصين حاملة الطائرات الثالثة للصواريخ الجوية-بحرية الجديدة “فوجيان” (Fujian, Type 003)، وهي أول حاملة صينية تستخدم قاذفات كهرومغناطيسية (Electromagnetic Catapults)، لكن لم يتم تأكيد ما إذا الحاملة دخلت الخدمة الكاملة بذلك النظام أم لا. وتشير تقارير أخري إلى أن فوجيان قد أتمت جولة اختبارات بحرية مكثفة، وأنها ستدخل الخدمة رسمياً في 2025.

ويعتقد أن هناك دوافع استراتيجية جعلت الصين تبادر بشكل مبكر إلى هذا التوجه، بعضها داخلي، لتعزيز الشعور القومي، وما يعرف عليه “الحلم الصيني”، وإبراز بصمة “حقبة شي” كأكبر نقلة نوعية في القوة الصلبة. أما خارجياً فالدافع الخاص بتطور مشهد الحرب الروسية الأوكرانية. وما يحققه حلفاء الولايات المتحدة في جوار الصين من قفزات دفاعية موازية.

مؤشر الإنفاق الدفاعي:

تدل أرقام الميزانية على مسار تصاعدي منذ اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية. فقد قدرت موازنة الدفاع لعام 2024 بنحو 249 مليار دولار، بزيادة 7.2% على أساس سنوي، بينما تشير تقديرات بحثية مثل تقديرات معهد ستوكهولم للسلام (SIPRI) إلى أن الموازنة تقدر 314 مليار دولار على أساس حساب تقديرات القوة الشرائية. بل إن بعض الدراسات الدولية التي نشرتها Texas National Security Review، MIT Security Studies Program (SSP) وغيرها إلى أن (الانفاق العسكري) الفعلي قد يصل إلى 471مليار دولار. وهو إنفاق ضخم، حتى لو قورن بالإنفاق الأمريكي الذي يزيد عن تريليون دولار، فالصين ليس لديها نفس المتطلبات الدفاعية وعمليات التشغيل والانتشار الواسع والأحلاف.

ويبرر هذا الاتجاه بتسارع التنافس في الإندو–باسيفيك بعد إعلان تحالف AUKUS عام 2021، إذ حفز بيئة سباق تقني–تشغيلي تدفع بكين إلى زيادة الإنفاق وتيرة وحجماً. كما أن الزيادة التي أدرجت منذ العام 2023 تشير إلى دور الحرب الروسية الأوكرانية كدافع آخر لهذه الزيادة.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الابتكار الدفاعي هو جزء من هذه الموازنة والأجندة التسليحية، ولا يقتصر الابتكار الدفاعي على القطاع العسكري، ووفقا لدراسة تفصليه لـ(Richard A. Bitzinger، Yoram Evron، Zi Yang) نشرها The National Bureau of Asian Research (NBR) في عام 2021 أصبحت المؤسسات المدنية كالجامعات والمؤسسات العلمية بشكل عام تلعب دوراً رئيسياً في مسألة الابتكار الدفاعي، من موازنتها الخاصة، لإنتاج أبحاث مدنية عسكرية، منها تطوير الرقائق الالكترونية، والاتصالات وغيرها، وهو أيضاً متغير جديد بالنسبة للسياسات الصينية.

اكتمال “الثالوث النووي” الصيني:

يحمل استعراض مكونات الثالوث النووي، من الصواريخ العابرة للقارات (ICBM)، والغواصات حاملة الصواريخ الباليستية (SSBN)، والقاذفات الاستراتيجية رسالة مزدوجة. على المستوى التقني، يشير إلى أن بكين انتقلت من تراكم “الكم” إلى بناء بنية ردع متعددة الأبعاد قادرة على امتصاص الضربة الأولى (first strike) والرد عليها بالضربة الثانية (second strike capability). وعلى المستوى الاستراتيجي، يكشف هذا الوضع عن نية تثبيت موقع الصين كقوة نووية كبرى إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا، والانتقال من “الردع الأدنى” (Minimum Deterrence) إلى ردع أكثر مرونة وشمولًا. ويعزز هذا التوجه تطوير القاذفة الشبحية H-20، التي ستمنح الذراع الجوي مدى أبعد وبصمة رصد أقل، بما يزيد كلفة التدخل على الخصوم في مسارح مثل غرب الهادئ وتايوان.

وأشار تقرير للبنتاغون في 2023، وSIPRI في 2024 إلى أن الترسانة النووية الصينية دخلت مرحلة نمو متسارع، حيث تجاوز عدد الرؤوس الحربية النووية 600 رأس حربي عام 2024، مع توقعات بأن يتخطى الرقم 1000رأس حربي بحلول عام 2030 إذا استمرت على الوتيرة الحالية للإنتاج. يتعين النظر كذلك إلى نقطة أخري مهمة ظهرت في العرض العسكري الأخير، وهي تعدد منصات الإيصال (ثابتة، متحركة، أجيال مختلفة) في الذراع النووي الواحد، على نحو ما يشير إليه الشكل التالي:

يعكس هذا التنوع والتعدد ثلاث مؤشرات رئيسية، أولها: تعقيد الاستهداف بحيث لا يمكن للخصم أن يشن ضربة واحدة تحيد كل منصات الإطلاق. وثانيها: مرونة الردع، فإذا تعطلت الصوامع، تبقى المنصات المتحركة. إذا كُشفت الغواصات، يبقى الرد من الجو. وثالثها: التصعيد المتدرج بحيث تستطيع التهديد بالردع على مستويات مختلفة، بدل خيار واحد شامل.

كما طورت الصين بمساعدة روسيا بناء نظام “إنذار مبكر” نووي، ووفق البنتاغون اقتربت من تشغيل شبكة إنذار فضائي فعالة، ورادارات “ما وراء الأفق” يمكنها رصد إطلاق الصواريخ من آلاف الكيلومترات. وهي مكملة للأقمار الصناعية، حيث توفر إنذاراً إضافياً في حالات ضعف المراقبة الفضائية. هذا التطور يعزز من قدرة الصين على إطلاق ضربة ثانية بشكل موثوق، كونها لن تفاجأ كلياً بالضربة الأولى.

التكنولوجيا الدفاعية:

تركز العديد من التقديرات الدولية الشائعة على ميزان التسلح الكمي في سباقات التسلح، لاسيما القدرات النووية، في حين أن هناك عامل أقوي حالياً وهو التقدم التكنولوجي، وتهدف الصين إلى أن تصبح قوة تكنولوجية عظمي في هذا الاتجاه وتضعه على قائمة الأولويات، دون تجاهل غيره.

وفي العرض العسكري كانت القدرات العسكرية لافته، لكن الأكثر إبهاراً هو عامل التشبيك بين المنظومات تكنولوجياً، وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وثورة الاتصالات مع الإعلان عن شبكات الجيل السادس (6G)، والتي تشكل قفزة تالية في مسار تطوير وتشغيل القوة العسكرية.

قدرات غير تقليدية وتكامل “شبكي–ذكي”

لم يقتصر العرض على المنصات التقليدية، بل أبرز قدرات فضائية وسيبرانية ومنظومات مسيرات قتالية، إلى جانب أنظمة طاقة موجهة (ليزر وميكروويف) لمواجهة الدرونات. اللافت في هذا السياق على نحو ما سلفت الإشارة هو دمج تطبيقات الذكاء الاصطناعي والسحابة الدفاعية والحوسبة الكمومية ضمن بنية قيادة وسيطرة شبكية، ما يضيف قيمة استراتيجية في الدقة وسرعة اتخاذ القرار وكفاءة التشغيل. ويشير هذا التكامل إلى انتقال نوعي من “تحديث المنصة” إلى “تحديث المنظومة”، حيث تصبح الشبكات والبرمجيات بمثابة مضاعف قوة لا يقل شأناً عن السلاح نفسه.

ماذا يقلق ذلك واشنطن؟

لا يمكن فصل التطورات العسكرية الصينية عن الولايات المتحدة، بالنظر إلى الانتشار العالمي، وشبكات التحالفات المتشابكة، إضافة إلى التفوق النوعي في الحوسبة والشبكية والقدرات الخفية، خصوصاً منصات مثل القاذفة B-21 . وبالتالي فإن الزخم الكمي والنوعي للصين، مع سرعة إدخال المنصات إلى الخدمة، يضغطان تدريجياً على فجوات التفوق النوعي الأميركي، وبمرور الوقت يؤدي إلى تقليص الفجوة بينهما.

نقطة الحذر التي يشير إليها العديد من منظري العلاقات الدولية وشؤون الدفاع هي: تصور صعود الصين كقوة عظمى بالاعتماد على القوة الصلبة، وما قد يحمله ذلك من إطلاق حقبة “حرب باردة جديدة”. فبينما تنتهج بكين سياسات هجينة تدمج بين الدبلوماسية والسياسة الخارجية من جهة، والقوة العسكرية من جهة أخرى، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تتخلى الصين عن الموازنة بين الأدوات الناعمة والصلبة لصالح تغليب القوة العسكرية؟ أم أن المعادلة ستظل مرهونة بالتفاعلات الدولية ومسارات المنافسة مع واشنطن؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى