أمريكا تغرق في الديون.. إمبراطورية الاقتصاد على حافة الانهيار المالي

في عالم المال والاقتصاد، لا شيء يبدو أكبر من الولايات المتحدة الأمريكية، ولا أحد يقترب من مكانتها كأضخم اقتصاد على وجه الأرض،
لكن خلف هذه الصورة، تتشكل أزمة عملاقة بأرقام فلكية تثير القلق في كل ركن من أركان النظام المالي العالمي.
الولايات المتحدة، تجد نفسها اليوم أمام مأزق تاريخي غير مسبوق يهدد مصداقيتها المالية ومكانة عملتها العالمية، ديون تقترب من 38 تريليون دولار، والدائنون ليسوا مجرد أفراد أو مؤسسات صغيرة، بل دول كبرى وكيانات مالية عملاقة وضعت ثقتها في أكبر اقتصاد في العالم، ما يجعل الأسواق تراقب بقلق، وفقدان تدريجي لثقة مؤسسات تصنيف مالي في “العم سام”.
لم تعد المسألة نظرية أو تحذيرات أكاديمية، بل واقع يتكشف يومًا بعد يوم، ففي نهاية 2023، صرح المدير التنفيذي لـ”بنك أوف أمريكا”، بريان موينيهان، في مقابلة مع شبكة سي إن إن، أن الجميع داخل أمريكا وخارجها يجب أن يستعدوا لاحتمالية تخلف الحكومة الأمريكية عن سداد ديونها”.. كلمات ثقيلة، جاءت لتعيد فتح ملف طالما تجاهله الساسة والمستثمرون، لكنه اليوم يهدد أركان الاقتصاد العالمي بأسره.
تصنيف أمريكا الائتماني
مايو/أيار الماضي، خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني تصنيف الولايات المتحدة درجة واحدة من أعلى مرتبة “Aaa” إلى “Aa1″، في خطوة رمزية لكنها مشحونة بالدلالات، حيث أرجعت القرار إلى الارتفاع غير المسبوق في مستويات الدين وتكاليف الفائدة التي وصفتها الوكالة بأنها “أعلى بكثير من الدول ذات التصنيف المماثل”.
وقالت موديز بوضوح: “الإدارات الأمريكية المتعاقبة والكونغرس فشلوا في التوصل إلى اتفاق يوقف تدهور العجز المالي السنوي وتزايد تكاليف خدمة الدين”؛ لتفقد أمريكا تصنيفها الائتماني الممتاز للمرة الأولى في تاريخ موديز، بعدما سبقتاها وكالتي فيتش وستاندرد آند بورز في سحب الثقة الكاملة من قدرة الحكومة الأمريكية على السيطرة على مديونيتها.
في أغسطس/آب 2023، خفضت وكالة فيتش التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، مبررة قرارها بما سمته “تدهوراً مالياً متوقعاً” ومفاوضات سقف الدين التي تتكرر كل عامين وتضع قدرة واشنطن على الوفاء بالتزاماتها في مهب الريح.
أما وكالة ستاندرد آند بورز، فقد وجهت أول ضربة موجعة لأمريكا عام 2011، عندما سحبت منها التصنيف الممتاز بعد أزمة سقف الدين حينها، حيث تلك كانت المرة الأولى التي تشهد فيها الأسواق العالمية زلزالاً مالياً بسبب عجز السياسيين الأمريكيين عن الاتفاق على رفع سقف الديون في الوقت المناسب.
لماذا تستدين أقوى دولة في العالم؟
كيف يمكن لدولة تمتلك أكبر اقتصاد في العالم وأقوى عملة، أن تغرق في بحر من الديون؟.. ببساطة، تستدين الحكومة الأمريكية من أجل تمويل إنفاقها الضخم الذي يتجاوز إيراداتها بفارق هائل، فالرواتب، والمعاشات، والنفقات الدفاعية، والدعم الاجتماعي، وفوائد الديون السابقة تمول عبر الاقتراض المستمر.
ويقول الخبير الاقتصادي عادل عامر اـ”العين الإخبارية”، إن تخفيض التصنيف الائتماني الأمريكي سببه الجوهري هو خروج الإنفاق الحكومي عن السيطرة، مضيفًا أن الولايات المتحدة تلجأ إلى أسواق الدين لسد الفجوة بين الإيرادات والإنفاق، وهذا الوضع مستمر منذ عقود.
تاريخيًا، وضعت أمريكا سقفًا للديون عام 1917 للحد من التوسع في الاقتراض، لكن ما حدث لاحقًا أن هذا السقف أصبح مجرد رقم شكلي يرفع بقرار من الكونغرس كلما اقتربت الخزانة من تجاوزه، فمنذ عام 2001، تم رفع سقف الدين 21 مرة.
ويضيف أن تأثير قرار وكالات التصنيف في جاذبية سندات الخزانة الأمريكية سيكون طفيفًا، لأن الاقتصاد الأمريكي يتمتع بمرونة عالية، ويمتلك ميزة “طباعة الدولار القوي” الذي يعزز الثقة في قدرته على السداد رغم التراجع في التصنيف.
حجم ديون أمريكا
بحسب بيانات وزارة الخزانة الأمريكية في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، ارتفع إجمالي الدين العام إلى 37.884 تريليون دولار، بزيادة 20 مليار دولار خلال يوم واحد فقط، وهو رقم لا يمثل مجرد عبء محلي، بل خطرًا عالميًا، لأن كل المؤسسات المالية الكبرى والدول تقريبًا تحتفظ بسندات خزانة أمريكية ضمن احتياطياتها.
اليابان، على سبيل المثال، تملك 1.09 تريليون دولار من ديون أمريكا، تليها الصين بنحو 778 مليار دولار، ثم المملكة المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. ويتوقع، وفق تقديرات مكتب الموازنة في الكونغرس، أن يرتفع إجمالي الدين الأمريكي إلى 54 تريليون دولار بحلول عام 2035 إذا استمر الإنفاق الحكومي على وتيرته الحالية.
السبب الرئيسي لهذا التصاعد السريع يعود إلى القانون الذي أقره الرئيس دونالد ترامب، تحت مسمى “القانون الكبير والجميل”، حيث خفض الضرائب ورفع سقف الإنفاق الحكومي بشكل غير مسبوق، وقدر المكتب أن هذا القانون وحده سيضيف 3.4 تريليون دولار إلى العجز خلال عشر سنوات.

الدولار.. درع أمريكا الواقي
رغم الأرقام الصادمة، يظل هناك ما يشبه “درع الحماية” الذي يمنع الانفجار الفوري، إنه “الدولار الأمريكي”، فبفضل هيمنته على الاقتصاد العالمي، تظل سندات الخزانة الأمريكية أكثر الأصول أمانًا في العالم، حتى وإن تراجع تصنيفها الائتماني. وفق صندوق النقد الدولي، يمثل الدولار نحو 58% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، ويستخدم في 40% من التعاملات التجارية الدولية.
ببساطة، طالما أن العالم بحاجة إلى الدولار، ستظل أمريكا قادرة على الاقتراض إلى ما لا نهاية تقريبًا، وهو ما يراه خالد الشافعي، رئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، الذي يستبعد احتمالية انفجار فقاعة الديون الأمريكية، موضحاً أن الولايات المتحدة لديها احتياطيات وأصول تجعلها بعيدة عن خطر الإفلاس.
ومع ذلك، يرى الشافعي أن أمريكا قد تصل إلى نقطة لا تتمكن فيها من سداد ديونها فيما يعرف بـ”الإفلاس التقني”، وعندها ستنهار قوة الدولار والعديد من المؤسسات المالية (من حملة سندات الخزانة الأمريكية) داخل وخارج الولايات المتحدة، في مشهد أقرب لما حدث عام 2008 عندما أشهر بنك ليمان براذرز إفلاسه مفجرًا أزمة عالمية طالت الجميع”.
ويضيف الشافعي لـ”العين الإخبارية” أن انفجار فقاعة الديون الأمريكية ستؤثر في الاقتصاد العالمي ككل نظرًا لحجم الاقتصاد الأمريكي، وحجم دائنيه، وعندما تتعثر الدول عن سداد ديونها تلجأ إلى مجموعة إجراءات أبرزها التدخل في سوق الصرف لحماية العملة من الانهيار التام وشطب جزء من ديونها.
شبح “الفقاعة”
في مايو/أيار 2024، حذرت وزيرة الخزانة الأمريكية السابقة جانيت يلين، من “كارثة اقتصادية” إذا لم يوافق الكونغرس على رفع سقف الدين البالغ حينها 31.4 تريليون دولار. تلك التصريحات كشفت هشاشة غير مسبوقة في المالية الأمريكية، فالحكومة كانت على بعد أيام من العجز عن دفع رواتب موظفيها وسداد فوائد ديونها!
بحسب أحدث بيانات وزارة الخزانة، ارتفع الدين الأمريكي منذ يوليو/تموز 2025 بمقدار 780 مليار دولار، أي ما يعادل 22 مليار دولار يوميًا، وجعلت هذه الأرقام نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تصل إلى 126.7%، أي أن أمريكا تدين بأكثر من حجم اقتصادها الفعلي، بعدما كانت هذه النسبة لا تتجاوز 60% في أوائل التسعينيات.
صندوق النقد الدولي حذر في تقرير بأبريل/نيسان 2024، من أن المستوى القياسي للديون الأمريكية يشكل تهديدًا للاستقرار المالي العالمي”، مشيرًا إلى أن ارتفاع العائد على السندات الأمريكية أدى إلى رفع أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم.
كما ان الملياردير والمستثمر المخضرم راي داليو، مؤسس صندوق “بريدج ووتر أسوشيتس”، أطلق تحذيرات متكررة من أن الدين الأمريكي في طريقه إلى “مستويات ما قبل الحرب العالمية الثانية”، مضيفًا أن الولايات المتحدة تنفق 7 تريليونات دولار سنويًا بينما تجني 5 تريليونات فقط، أي أنها تقترض ما يعادل 2 تريليون دولار سنويًا لتغطية العجز.
وفي مقابلة مع “بلومبرغ” أضاف، أنه إذا استمرت هذه الوتيرة، سيبلغ الدين 130% من الناتج المحلي خلال عقد، أي ما يعادل 425 ألف دولار من الديون لكل أسرة أمريكية واحدة، لكنه لا يرى الخطر في الأرقام فقط، بل في الانقسام السياسي والاجتماعي داخل أمريكا، الذي وصفه بأنه “حرب أهلية باردة” قد تضعف البلاد أكثر وتؤثر في قدرتها على اتخاذ قرارات مالية حاسمة.

من يتحمل فاتورة الديون الأمريكية؟
يقول الخبير الاقتصادي رشاد عبده، إن ارتفاع الفوائد تكلفة خدمة الدين يعني أن الحكومة ستدفع أكثر لكي تسدد الفوائد بدلًا من الاستثمار في البنية التحتية أو الصحة أو التعليم، فأي أزمة ركود اقتصادي ستكون أخطر لأن هامش المناورة المالي سيكون محدود للغاية.
ويضيف عبده لـ”العين الإخبارية”، أن سندات الخزانة الأمريكية تعتبر الأداة الأكثر أمانًا للاستثمار، لكن مع زيادة المعروض منها، العوائد سترتفع، ما يرفع أسعار الفائدة في دول كثيرة، والدول النامية ستعاني أكثر لأنها تواجه صعوبة في الاقتراض بأسعار معقولة، فزيادة الديون ستخلق مخاوف بين المستثمرين، ما قد يؤدي لتقلبات أكبر في أسواق الأسهم والعملات، وأي تخفيض في التصنيف الائتماني الأمريكي قد يهز ثقة الأسواق العالمية.
ويلفت عبده إلى أنه رغم كل التحذيرات، لا تزال أمريكا تسير بخطى ثابتة نحو مزيد من الاقتراض، فالحكومة الفيدرالية تعتمد على طباعة سندات جديدة لسداد القديمة، في حلقة مفرغة لا يبدو أن لها نهاية قريبة، لكن المعضلة الحقيقية أن العالم بأسره يعتمد على هذه الديون أيضًا.
ويوضح أن سندات الخزانة الأمريكية ليست مجرد أدوات مالية، بل الركيزة الأساسية للنظام المالي العالمي، وأي هزة فيها، مهما كانت بسيطة، قد تعني اضطرابًا في جميع أسواق المال، لكنه يشدد على أن أمريكا ما تزال قادرة على دفع فواتيرها وإقناع المستثمرين بشراء سنداتها، بفضل ثقة راسخة في الدولار واقتصادها الضخم.
ورغم ذلك، فإن الأسواق بدأت تقلق، والمؤسسات المالية تتراجع، وصوت التحذيرات يعلو، وإذا استمرت وتيرة الإنفاق الحالية، فإن “فقاعة الديون الأمريكية” لن تبقى مجرد مصطلح اقتصادي، بل واقعًا قد يعصف بأكبر اقتصاد في العالم ويعيد رسم ملامح النظام المالي العالمي برمته. ويقول الاقتصادي راي داليو: “الإمبراطوريات لا تنهار فجأة، بل تبدأ بالإنفاق أكثر مما تكسب، إلى أن يأتي اليوم الذي لا يجد فيه أحد سببًا ليقرضها المزيد”.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=
جزيرة ام اند امز




