اسعار واسواق

«القضية العادلة».. عملية بنما السهلة تغري ترامب بتكرارها في فنزويلا؟


في فجر العشرين من ديسمبر/كانون الأول عام 1989، شنت الولايات المتحدة عملية عسكرية حملت الاسم الرمزي “القضية العادلة” لاجتثاث نظام

 الديكتاتور البنمي مانويل نورييغا، الضابط السابق في الجيش البنمي الذي تحول من حليف وثيق لوكالة الاستخبارات الأمريكية إلى تاجر مخدرات ومصدر إزعاج سياسي لها.

وبعد أسابيع من القتال، انتهت العملية بإلقاء القبض على نورييغا، الذي جرى نقله إلى الولايات المتحدة لمحاكمته بتهم الابتزاز وتهريب المخدرات، في مشهد مثّل نهاية سريعة ومهينة لحكمه الذي امتد لأعوام.

وبررت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب الغزو بأنه جاء لحماية المواطنين الأمريكيين في بنما، واستعادة الديمقراطية المفقودة، وقطع طرق تهريب المخدرات التي كانت تمر عبر البلاد.

وبعد ساعات فقط من بدء العمليات، أدى زعيم المعارضة غييرمو إندارا اليمين الدستورية رئيسًا لبنما بدعم مباشر من القوات الأمريكية، بعدما اعتبره المراقبون الدوليون الفائز الحقيقي في انتخابات 1989 التي ألغيت سابقًا بأوامر نورييغا.

وبذلك، بدا الغزو – من وجهة النظر الأمريكية – عملية سهلة وناجحة في تحقيق أهدافها بأقل تكلفة ممكنة.

لكن بعد مرور خمسة وثلاثين عامًا، بدأ كثير من الخبراء العسكريين والسياسيين في التشكيك في هذه الصورة البراقة، متسائلين عما إذا كان بالإمكان تكرار “السيناريو البنمي” في بلدان أخرى، ولا سيما في فنزويلا، للإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو.

رغم ذلك، يحذر هؤلاء من أن المقارنة بين الحالتين مضللة إلى حد بعيد، لأن الظروف التي أحاطت بغزو بنما كانت فريدة وغير قابلة للاستنساخ في سياقات مختلفة.

ويقول ضابط أمريكي متقاعد شارك في غزو بنما ثم في حرب العراق عام 2003، إن أي عملية عسكرية في فنزويلا “لن تشبه بنما أبدًا، بل ستكون أشبه بالعراق”، موضحًا أنها ستكون عملية “أكبر وأكثر تعقيدًا بكثير”، نظرًا لحجم البلاد وطبيعة النظام الحاكم وتماسك الأجهزة الأمنية.

ويرى الخبراء أن سقوط نظام نورييغا السريع في 1989 لم يكن نتيجة تفوق عسكري أمريكي فحسب، بل نتاج مجموعة من العوامل الخاصة التي سهلت العملية إلى حد بعيد. فقد كان للولايات المتحدة وجود عسكري دائم في بنما يضم نحو 14 ألف جندي، إلى جانب شبكة استخباراتية راسخة بفضل إدارتها الطويلة لقناة بنما، ما منحها معرفة دقيقة بالبنية الأمنية والسياسية في البلاد.

الجنرال نورييغا في قبضة عملاء مكافحة المخدرات الأمريكيين بعد استسلامه واعتقاله

بالإضافة إلى ذلك، كان نظام نورييغا يعاني ضعفًا داخليًا شديدًا، إذ انقسمت قوات الدفاع البنمية وشهدت محاولة انقلاب فاشلة قبل الغزو بشهرين فقط. وما إن سقط مقر القيادة في العاصمة حتى انهار النظام بأكمله.

كما امتلكت واشنطن في تلك الفترة ميزة استخباراتية حاسمة، إذ كانت قادرة على جمع معلومات ميدانية دقيقة وسريعة. ويروي أحد الضباط الأمريكيين المشاركين في العملية قائلاً: “كان لدينا آلاف الجنود المتزوجين من نساء بنميات، وكانت عائلاتهم تزودنا بالمعلومات يوميًا. كنا نتحقق من كل معلومة بمكالمة هاتفية واحدة تقريبًا.”

هذا النوع من التواصل الميداني الواسع منح القوات الأمريكية قدرة شبه كاملة على مراقبة تحركات الجيش البنمي وضمان عنصر المفاجأة.

في المقابل، تختلف فنزويلا اليوم جذريًا عن تلك البيئة. فلا وجود عسكري أمريكي دائم هناك، كما أن السفارة الأمريكية في كاراكاس أُغلقت منذ عام 2019، ما يعني غياب أي نفوذ مباشر أو شبكة معلومات محلية.

إضافة إلى ذلك، فإن نظام مادورو أكثر تماسكًا وتشددًا، إذ بنى بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2002 جهازًا أمنيًا وسياسيًا محكمًا يضمن الولاء للنظام في جميع مفاصل الدولة. ويشبّه الضابط الأمريكي المتقاعد هذا النظام بحزب البعث العراقي في عهد صدام حسين، قائلاً: “لقد بنى مادورو منظومة سياسية متغلغلة في المجتمع، يصعب اختراقها أو تفكيكها بسهولة.”

وتبرز كذلك العقبات الجغرافية والديموغرافية، إذ إن فنزويلا أكبر من بنما بنحو 12 مرة، ويعادل عدد سكان العاصمة كاراكاس وحدها تقريبًا عدد سكان بنما بأكملها وقت الغزو.

ويشير أستاذ العلوم السياسية أورلاندو بيريز إلى أن دعم مادورو، رغم هشاشته النسبية، لا يعني انهيار النظام فورًا، فالكثير من عناصر المؤسسة الحاكمة يدركون أن مصيرهم مرتبط ببقاء النظام، ولذلك سيقاتلون حتى النهاية. ويقدّر بعض الخبراء أن أي غزو عسكري لفنزويلا سيحتاج إلى أكثر من مئة ألف جندي أمريكي لتحقيق نتائج حاسمة، وهو رقم يتجاوز بكثير ما استخدمته الولايات المتحدة في بنما.

وبينما تمكّنت الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها العسكرية في بنما بسرعة، إلا أن النتيجة السياسية والاقتصادية كانت أقل وضوحًا. فبعد الإطاحة بنورييغا، لم تشهد البلاد تحسنًا كبيرًا في مستويات المعيشة أو في مكافحة تجارة المخدرات، واستمرت المشكلات البنيوية التي كانت سببًا في تدخل واشنطن أصلًا.

والأهم من ذلك، أن الوهم بـ”سهولة” تغيير الأنظمة بالقوة أرسى سابقة خطيرة في التفكير السياسي الأمريكي، إذ ساهم في تعزيز الاعتقاد بإمكانية تكرار النجاح ذاته في أماكن أخرى مثل العراق لاحقًا، وهو ما أثبتت التجربة أنه كان استنتاجًا مضللًا.

ويختم الضابط المتقاعد حديثه قائلاً: “لقد استخلصنا الدروس الخاطئة من بنما. هناك ميل دائم للاعتقاد بأن ما نجح هنا سينجح هناك، لكن ما يحدث في دوائر صنع القرار هو تبسيط مفرط للتاريخ. والحقيقة أن كل بلد حالة فريدة، وما يبدو سهلًا على الورق قد يكون مستحيلاً في الواقع.”

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى