تحالفات شبه رسمية.. كيف تدير أمريكا علاقاتها الأكثر تعقيدا؟

تمثل الحروب الطويلة التي اندلعت بأوكرانيا وغزة اختباراً صارخاً لقدرة الولايات المتحدة على إدارة علاقات مع «الحلفاء شبه الرسميين».
والحلفاء شبه الرسميين هي الدول الواقعة في منطقة رمادية بين الشركاء التقليديين وبين الحلفاء المرتبطين بمعاهدات دفاع ملزمة.
وفي وقتٍ وعد فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية عام 2024 بإنهاء الحربين قبل توليه المنصب، أظهرت التطورات اللاحقة مدى تعقيد تلك العلاقات وعمق المعضلات الاستراتيجية التي تفرزها، وفق تحليل لـ«فورين أفيرز».
فبعد 9 أشهر من وصول ترامب إلى البيت الأبيض، تمكن من التوسط لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس»، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد انهيار الهدنة التي ورثها عن إدارة بايدن، وتفاقم الأزمة الإنسانية في غزة.
أما الحرب في أوكرانيا فلا تزال مستمرة دون توقف. ومع أن هذه التحديات لم تكن جديدة على ترامب، إذ عانى منها بايدن أيضاً، فإن الفارق كشف مدى حساسية التحالفات «شبه الرسمية» ومدى قدرتها على التأثير في حسابات الحرب والسلام لدى واشنطن.
هذه الفئة من الحلفاء—مثل أوكرانيا وإسرائيل وتايوان—موقعها بالغ الحساسية: فهي تتلقى مساعدات عسكرية ضخمة، وتعمل بتنسيق لصيق مع واشنطن، لكنها لا تتمتع بضمانة دفاعية رسمية، الأمر الذي يخلق مساحة واسعة من الغموض الاستراتيجي والتوقعات المتباينة.
حلفاء بلا معاهدة.. ولكن أكثر من مجرد شركاء
وفي تصنيف العلاقات الدولية الأمريكية، ينقسم العالم إلى حلفاء وشركاء. فالحلفاء هم الدول التي تربطها بالولايات المتحدة معاهدات دفاع مشترك واضحة ومُلزِمة، فيما ينال الشركاء دعماً أمنياً غير مُلزِم في حال تعرضهم لهجوم.
أمّا الحلفاء «شبه الرسميين» فيقفون في منطقة وسطى: واشنطن تستثمر بعمق في أمنهم وتسليحهم وتدريبهم، بل وتستضيف أحياناً قوات أمريكية على أراضيهم، لكنها لا تلتزم بالدفاع عنهم تلقائياً.
ويترافق هذا النموذج مع إشكالات جوهرية:
- تضارب في التوقعات حول مدى استعداد واشنطن للدفاع عنهم في حرب كبرى.
- خشية أمريكية من الارتباط الأمني الكامل، تجنباً للتورط في نزاعات غير قابلة للسيطرة.
- احتمال أثارة الخصوم عند منح ضمانات دفاعية رسمية.
- عدم ثقة واشنطن بأن هذه الدول ستلتزم تماماً بسياسات تتوافق مع المصالح الأمريكية.
وهو ما يجعل تلك التحالفات أقل فاعلية كأدوات للردع، وأكثر عرضة للاختبار خلال الأزمات.
أوكرانيا وإسرائيل.. مصلحة مشتركة وأهداف مختلفة
ورغم الدعم الأمريكي الواسع لأوكرانيا، فإن تقييم الجانبين للمخاطر يختلف جذرياً. فالولايات المتحدة تنظر إلى الحرب من منظور استراتيجي طويل الأمد، وتحاول موازنة دعم كييف دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع موسكو.
أما أوكرانيا، التي ترى الحرب باعتبارها مسألة وجودية، فتسعى إلى أقصى درجات التصعيد العسكري أملاً في تحقيق مكاسب ميدانية أو سياسية.
هذا التباين ظهر مبكراً في مطالب كييف بالحصول على صواريخ «أتاكمز»، ثم في سعيها إلى استخدام الأسلحة الأمريكية لضرب العمق الروسي. وبعد ضغط طويل، قدمت واشنطن جزءاً من مطالب أوكرانيا وبشروط، مما أدى إلى نتيجة غير مثالية للطرفين: فواشنطن قدّمت دعماً أكبر مما أرادت، وكييف حصلت على أقل مما تحتاج لحسم الحرب.
الوضع في إسرائيل اتخذ منحى مشابهاً. فبعد هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نجح الرئيس السابق بايدن في إقناع نتنياهو بعدم شن هجوم استباقي على «حزب الله». ثم جاءت لحظة أخرى في أبريل/نيسان 2024 بعد الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل، حين دفع بايدن باتجاه عدم الرد الواسع، وهو ما التزم به نتنياهو جزئياً.
ومع وصول ترامب، تغيّرت المعادلة. ورغم إعلانه عن رغبته بمعالجة الملف النووي الإيراني دبلوماسياً، أقدمت إسرائيل على حملة عسكرية شاملة ضد إيران، واضطر ترامب في النهاية إلى الموافقة على ضربات أمريكية مشتركة داخل إيران، في مشهد يعكس مدى قدرة الحليف شبه الرسمي على دفع واشنطن نحو مواقف لم تكن ترغب بها.
خطر الانجرار إلى الحرب: جوهر المعضلة
وتُعد قضايا التصعيد والمخاطرة أخطر نقاط التباين بين الولايات المتحدة وحلفائها شبه الرسميين. فهذه الدول—باعتبارها الطرف المحلي الذي يدفع كلفة الحرب مباشرة—تميل إلى خيارات عالية المخاطرة قد تُجبر واشنطن لاحقاً على اتخاذ قرارات حاسمة، بما فيها التدخل المباشر.
هذه الحسابات تختلف جذرياً عن الدول الحليفة رسمياً (مثل دول الناتو)، حيث تكون قواعد اللعبة أوضح، ومسارات التدخل محسومة مسبقاً.
حدود النفوذ الأمريكي
تخوض الولايات المتحدة معركة نفوذ صعبة مع هذه الدول، إذ لا يضمن التفوق العسكري أو الاقتصادي قدرة واشنطن على فرض سياساتها. فالعلاقة نفسها تصبح أداة استراتيجية للحليف، الذي يدرك أن خسارته للدعم الأمريكي تمثل مكسباً لخصوم واشنطن.
في أوكرانيا: أظهر الضغط الأمريكي محدوديته، بل وشجّع موسكو على التصعيد بعد تقليص الدعم العسكري لكييف.
في إسرائيل: عجز بايدن عن فرض قيود كبيرة على العمليات العسكرية بسبب وضع إسرائيل الأمني الإقليمي، بينما منحها ترامب حرية شبه مطلقة قبل أن يعود ويضغط عليها سياسياً في اللحظة الحرجة لصالح وقف إطلاق النار.
إدارة العلاقة: ضرورة إعادة ضبط الأدوات الأمريكية
وتستخلص الكاتبة مجموعة من المبادئ لإدارة أكثر فعالية للتحالفات شبه الرسمية:
1. وضوح الأهداف المشتركة
ينبغي أن تدعم الولايات المتحدة هذه الدول فقط عندما تكون الأهداف الاستراتيجية متقاربة، وأن تُنشأ آلية تنسيق واضحة تمنع الخلافات من التحول إلى صدامات علنية.
2. أدوات ضغط ذكية وموثوقة
ينبغي أن تُربط المساعدات الأمنية بشروط واضحة ومكتوبة، تشمل:
- آليات للاستخدام المسؤول للأسلحة
- حدود للتصعيد العسكري
- معالجة الانتهاكات منذ بدايتها
ويلعب الكونغرس دوراً محورياً في ضبط هذه العلاقة وفي توفير غطاء سياسي للمسؤولين الأمريكيين.
3. خطاب دقيق ومدروس
على خطابات واشنطن العامة أن تكون داعمة دون أن تخلق التزامات يصعب التراجع عنها، لأن الوعود المبالغ فيها قد تتحول لاحقاً إلى عبء سياسي واستراتيجي.
تايوان.. الاختبار الأكبر القادم
وتبقى تايوان أخطر نموذج للحليف شبه الرسمي، نظراً لإمكانية اندلاع مواجهة عسكرية مع الصين. وفي حال اندلاع الحرب، قد تجد الولايات المتحدة نفسها مشاركة بشكل مباشر، الأمر الذي يزيد المخاطر لكنه يمنحها نفوذاً أكبر—إذا أُحسن استثماره.
لذلك تُحتم التجربة إنشاء تنسيق مسبق يشمل:
- خطط إدارة التصعيد
- الاستراتيجية العسكرية المشتركة
- شروط إنهاء الحرب كجزء من التخطيط الاستباقي
مقاربة جديدة
وتؤكد التجربة الأخيرة في غزة وأوكرانيا أن واشنطن لا تستطيع—ولا ينبغي لها—التخلي عن حلفائها شبه الرسميين الذين يقفون في مناطق جيوسياسية شديدة الخطورة.
لكن إدارتهم تتطلب أدوات أكثر دقة من تلك التي استخدمت في العقدين الأخيرين، وتطوير استراتيجية جديدة يتطلب:
- قراءة دقيقة لتجارب النجاح والفشل
- إدراكاً للقيود والفرص
- وعياً بأن الحروب الحديثة لا تُدار فقط عبر القوة، بل عبر فهمٍ عميق لديناميات الحلفاء وشروط التأثير عليهم
ووفق تحليل «فورين أفيرز»، يكمن التحدي الأكبر أمام الولايات المتحدة، في عهد ترامب أو أي إدارة لاحقة، وهو كيف تحافظ على نفوذها دون الانجرار إلى حروب لا تريدها، ودون التخلي عن شركاء تعتمد عليهم لتحقيق مصالحها العالمية؟
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز




