الصين تصنع مستقبل النظام العالمي.. من أعماق البحار إلى الفضاء السيبراني

تتحرك الصين بخطى ثابتة نحو بناء نفوذ عميق داخل الأنظمة التي ستحدد شكل العالم خلال العقود المقبلة. ويأتي ذلك في الوقت الذي تنشغل فيه التحليلات الغربية بسباق الرسوم الجمركية وقيود سلاسل التوريد التكنولوجية.
ووفق رؤية الرئيس شي جين بينغ، فإن الصراع الحقيقي لا يقتصر على التكنولوجيا أو التجارة فقط، بل يمتد إلى صياغة “قواعد اللعبة” في فضاءات جديدة تشمل أعماق البحار، القطب الشمالي، الفضاء، الإنترنت، والأنظمة المالية العالمية.
وأشار تحليل نشرته مجلة Foreign Affairs إلى أن بكين تنفذ استراتيجية طويلة الأمد تقوم على تطوير القدرات الصلبة، واختراق المؤسسات الدولية عبر الخبراء والمسؤولين، وبناء مؤسسات بديلة عندما تفشل في التأثير على المؤسسات القائمة. وتتميز هذه المقاربة بالمرونة، ما مكّن الصين من التقدم في مجالات كانت حكراً على القوى التقليدية.
أعماق البحار
يعد هذا المجال أحد أبرز محاور النفوذ الصيني. ففي 2016 وصف الرئيس شي أعماق البحار بأنها “كنز غير مكتشف”، مؤكداً ضرورة امتلاك الصين التكنولوجيا التي تمنحها القدرة على الاكتشاف والاستخراج.
وبالفعل، أصبحت الصين تهيمن على سلاسل توريد العناصر الأرضية النادرة، وتسعى الآن لمد نفوذها نحو التعدين في قاع البحار. هذه الخطوة تعزز قدراتها الصناعية والعسكرية، خصوصاً في مجالات رسم خرائط القاع البحري ومد الكابلات الاستراتيجية.
القطب الشمالي
رغم عدم كونها دولة قطبية، تسعى بكين لفرض نفسها كطرف مؤثر في المنطقة. فخطة “طريق الحرير القطبي” التي أعلنت عام 2018، تعتبر المنطقة شأناً عالمياً وليس حكراً على الدول المحيطة.
ورغم تجميد دول الشمال للاستثمارات الصينية، فتحت روسيا الباب واسعاً أمام الشراكة مع بكين بعد عزلتها عقب حرب أوكرانيا.
ووقّعت الدولتان اتفاقات لتطوير مشروعات في التعدين والبنية التحتية، إلى جانب تدريبات عسكرية مشتركة في البحار القطبية، مع استمرار الحذر الروسي من الطموحات الصينية.
الفضاء
تواصل الصين مشروعها الأضخم “المحطة الدولية للأبحاث القمرية” بالشراكة مع روسيا، بهدف إقامة قاعدة دائمة في القطب الجنوبي للقمر وجذب عشرات الدول والمؤسسات للمشاركة.
وتسعى بكين من خلال هذا المشروع لبناء منظومة حوكمة فضائية تحت قيادتها. وفي المقابل، تتخذ الصين موقفاً متحفظاً تجاه المبادرات الغربية للحد من عسكرة الفضاء، وتدفع باتجاه رؤى بديلة تجذب دولاً مثل إيران وكوريا الشمالية.
الفضاء السيبراني
تعمل بكين على إعادة صياغة بنية الإنترنت العالمية من خلال طرح بدائل للبروتوكولات الحالية. فمشروع “New IP” الذي تقدمت به شركات صينية كبرى، يسعى لإنشاء نظام يمنح الحكومات قدرة أكبر على التحكم في حركة البيانات.
كما تواصل الصين توسيع نفوذها في أسواق الاتصالات عبر “طريق الحرير الرقمي”، حيث تستحوذ شركتا هواوي وZTE على نحو 40% من السوق العالمي للمعدات.
الأنظمة المالية الدولية
تسعى الصين لتعزيز دور عملتها في المعاملات الدولية، عبر اتفاقات المقايضة وبناء نظام دفع بديل لـSWIFT، وتشجيع الدول المشاركة في مبادرة الحزام والطريق على التعامل باليوان. وبحلول منتصف 2025، وصل حجم التجارة الصينية المسوّاة باليوان إلى 29% من إجمالي تجارتها الثنائية، ما يعكس توسعاً كبيراً في تأثيرها المالي العالمي.
في المقابل، يواجه الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، تحدياً للحفاظ على مكانته في هذه المساحات الجديدة. ورغم استمرار قدرة واشنطن على جذب الحلفاء، فإن بنيتها التحتية التقنية والعلمية تتراجع مقارنة بالصين، ما يستدعي استثمارات ضخمة ونهجاً تعاونياً يتجاوز شعار “أميركا أولاً”.
خلص التحليل إلى أن الصراع الراهن لا يقتصر على التنافس الاقتصادي أو التكنولوجي، بل يمتد إلى تحديد شكل النظام العالمي القادم. وبينما تطرح الصين نموذجاً يقوم على النفوذ المركزي والانضباط السياسي، تراهن الولايات المتحدة على قدرتها في تقديم شراكات أكثر انفتاحاً وشفافية. وسيحسم المستقبل لمن يستطيع تقديم رؤية أكثر جاذبية واستدامة للعالم.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز




