اسعار واسواق

باريس تُربك مسار «ميركوسور»… خبير فرنسي يشرح أسباب الخلاف الأوروبي


يرى الخبير الاقتصادي الفرنسي سيباستيان جان أن طلب باريس تأجيل المواعيد المحددة للتصديق على اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وتكتل «ميركوسور» يعكس تحولا عميقا في مقاربة باريس للسياسة التجارية الأوروبية.

وأكد سيباستيان جان أن «الاتفاقيات التجارية لم تعد ملفات تقنية فقط، بل أصبحت قضايا سياسية واجتماعية بامتياز».

وأثار طلب فرنسا من الاتحاد الأوروبي تأجيل المواعيد المحددة للتصديق على اتفاقية التجارة الحرة مع دول تكتل «ميركوسور» جدلا واسعا داخل الأوساط الأوروبية، في وقت تسعى فيه المفوضية الأوروبية إلى دفع الاتفاق قدما قبل نهاية العام. وبين اعتبارات حماية الزراعة الأوروبية، وحسابات التوازنات السياسية داخل الاتحاد، ومستقبل السياسة التجارية الأوروبية، تتكشف أبعاد متعددة لهذا القرار.

وفي حديثه إلى «العين الإخبارية»، قال الخبير الاقتصادي الفرنسي المتخصص في التجارة الدولية والشؤون الأوروبية، والمدير المشارك في مركز الدراسات المستقبلية والمعلومات الدولية، إن طلب فرنسا تأجيل القرارات المتعلقة باتفاقية ميركوسور لا يمكن فهمه باعتباره خطوة تكتيكية عابرة، بل يعكس قلقا هيكليا داخل فرنسا وعدد من الدول الأوروبية بشأن كلفة الاتفاق على قطاعات حساسة، وفي مقدمتها القطاع الزراعي.

وأوضح جان أن الجدل المتصاعد حول الاتفاقية لا يرتبط فقط ببنودها الاقتصادية، بل يتصل مباشرة بمخاوف تتعلق بحماية الزراعة الأوروبية، والحفاظ على التوازنات الاجتماعية داخل دول الاتحاد، في وقت تسعى فيه المفوضية الأوروبية إلى تسريع وتيرة المصادقة على الاتفاق قبل نهاية العام، باعتباره أحد محاور استراتيجيتها التجارية الخارجية.

وأوضح أن هذا التباين في الرؤى بين باريس وبروكسل يعكس صراعا أوسع داخل الاتحاد الأوروبي حول مستقبل الانفتاح التجاري، وحدود المنافسة العادلة، ودور أوروبا في إعادة رسم توازناتها الاقتصادية والجيوسياسية على الساحة الدولية، وهي عوامل جعلت من اتفاقية ميركوسور واحدة من أكثر الاتفاقيات إثارة للانقسام داخل «البيت الأوروبي».

وأضاف أن باريس ترى أن الشروط الحالية للاتفاق «غير متوازنة»، موضحا أن فتح السوق الأوروبية أمام منتجات زراعية قادمة من دول مثل البرازيل والأرجنتين، حيث تعد معايير الإنتاج أقل صرامة من حيث الالتزامات البيئية واستخدام المبيدات، يضع المزارع الأوروبي في موقع تنافسي ضعيف ويهدد استدامة القطاع الزراعي داخل الاتحاد.

وأكد أن الحكومة الفرنسية لا تعارض مبدأ الانفتاح التجاري بحد ذاته، لكنها تطالب بما تسميه «ضمانات متبادلة»، تشمل آليات حماية واضحة وبنودًا قابلة للتنفيذ تتعلق بالمعايير البيئية والصحية، وهو ما ترى باريس أنه لم يتحقق بصورة كافية في الصيغة الحالية للاتفاق.

وعن توقيت طلب التأجيل، أوضح الخبير الفرنسي أن الخطوة تأتي في سياق أوروبي داخلي حساس، إذ تواجه عدة حكومات ضغوطًا متزايدة من المزارعين، في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج، وأزمة القدرة الشرائية، والتوترات المرتبطة بالتحول البيئي ومتطلبات خفض الانبعاثات.

وأضاف أن باريس تخشى أن يؤدي تمرير الاتفاق في هذا الظرف إلى تفاقم الاحتقان الاجتماعي، ليس في فرنسا فقط، بل في دول أخرى مثل بولندا وإيرلندا، وهو ما قد يقوض الثقة في السياسة التجارية الأوروبية ككل ويغذي النزعات الاحتجاجية.

وفي المقابل، قال سيباستيان جان إن المفوضية الأوروبية تنظر إلى اتفاق ميركوسور باعتباره اتفاقا استراتيجيا طويل الأمد، يهدف إلى تعزيز نفوذ الاتحاد الأوروبي في أمريكا اللاتينية، وموازنة التمدد الصيني المتزايد في المنطقة، إلى جانب فتح أسواق جديدة أمام الصناعات الأوروبية.

وأوضح أن هذا الاختلاف في المقاربة يفسر حدة الصدام الحالي، حيث تركز المفوضية على المكاسب الجيوسياسية والصناعية بعيدة المدى، بينما تركز فرنسا على التداعيات الاجتماعية والسياسية قصيرة المدى داخل دول الاتحاد.

وأكد الخبير الاقتصادي أن تمرير الاتفاق دون توافق واسع بين الدول الأعضاء قد يشكل سابقة خطيرة، محذرًا من أن «اتفاقيات التجارة لم تعد ملفات تقنية فقط، بل أصبحت قضايا سياسية بامتياز»، ما يفرض مقاربة أكثر حذرا وشمولية.

وأضاف أن تجاهل مخاوف الدول المتحفظة قد يدفع إلى تصاعد النزعات الحمائية والشعبوية داخل أوروبا، وهو ما يتناقض مع الهدف المعلن للاتحاد الأوروبي بالحفاظ على وحدة السوق المشتركة وتعزيز التماسك الداخلي.

وحول التداعيات المحتملة لقرار التأجيل، أوضح سيباستيان جان أن التأجيل لا يعني بالضرورة إسقاط الاتفاق، بل قد يفتح الباب أمام إعادة تفاوض جزئية، أو إدراج ملاحق إضافية تتعلق بحماية الزراعة والمعايير البيئية والصحية.

وأضاف أن هذا السيناريو قد يمنح الاتفاق شرعية سياسية أوسع، حتى وإن جاء على حساب تأخير توقيعه، معتبرا أن «اتفاقا متوازنا متأخرا أفضل من اتفاق سريع يفتقر إلى القبول الشعبي».

وختم بالقول إن مستقبل اتفاقية ميركوسور سيعتمد إلى حد كبير على قدرة الاتحاد الأوروبي على التوفيق بين منطق السوق ومنطق الحماية الاجتماعية، مشددا على أن فرنسا، من خلال طلبها التأجيل، تسعى إلى إعادة ضبط هذا التوازن، لا إلى نسف الاتفاق من أساسه.

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=

جزيرة ام اند امز

NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى