بعين الهندسة.. ماذا يحدث داخل مقبرة سيتي الأول بعد ثلاثة آلاف عام؟ (خاص)

عندما يحالفك الحظ لزيارة مقبرة “سيتي الأول” في منطقة وادي الملوك بمحافظة الأقصر المصرية، سيبهرك بلا شك هذا البناء.
ولا يعد هذا البناء فقط تحفة فنية، لكنه أيضا تحفة إنشائية تكشف براعة المصري القديم في تشييد أعمق مقبرة في العالم (حوالي 137 متراً داخل الجبل).
لكن هذه البراعة الإنشائية، التي وفرت الحماية الطويلة لهذه المقبرة التي تعود لواحد من أهم ملوك مصر القديمة، وهو سيتي الأول مؤسس الأسرة ١٩، ووالد أحد أشهر الملوك، وهو “رمسيس الثاني”، لا تعني أنها لا تتأثر بالزمن والعوامل الأخرى، فهي كأي بناء في العالم يواجه تحديات بسبب تفاعله مع الزمن والبيئة والضغوط الطبيعية، التي لا دخل للبشر بها.
وقبل أن تقود تلك العوامل مجتمعة إلى خروج هذا الأثر المهم من الخدمة، يقدم الدكتور سيد حميدة، أستاذ هندسة الإنشاءات وترميم الآثار بجامعة القاهرة، ورئيس قسم الترميم بالكلية، تشخيصا هندسيا غير مسبوق لتقييم الحالة الإنشائية العميقة للمقبرة، وفهم السلوك الميكانيكي والكيميائي للصخور الحاملة لها، ليخرج في الهاية بنتيجة أنها تخوض صراعا مستمرا مع ثقل الجبل والظروف المناخية والكيميائية منذ أكثر من 3300 عام، مما يعرضها لأخطار صامتة، يمكن مواجهتها قبل أن تعلن عن نفسها مستقبلا بصوت عال، بحلول ترميمية متقدمة تضمن الحفاظ على هذا الأثر الفريد دون المساس بقيمته التاريخية أو الفنية.
تشخيص هندسي في عمق الجبل
واعتمد الدكتور حميدة في دراسته المنشورة قبل أيام بدورية “هيريتِدج ساينس”، على أدوات تحليل هندسي حديثة غير مسبوقة في دراسة المقابر الملكية، واضعا مقبرة سيتي الأول في قلب نموذج رقمي ثلاثي الأبعاد يحاكي سلوك الجبل المحيط بها وكأنه كائن حي يتفاعل مع كل تغير زمني أو بيئي.
ومن خلال استخدام برامج محاكاة متقدمة مثل “بلاكسيس ثري دي”، يقول د.حميدة للعين الإخبارية: ” أجريت تحليلا إنشائيا دقيقا لغرف المقبرة وأعمدتها الضخمة، خصوصا في قاعة الدفن الرئيسية، وهذه النماذج الرقمية سمحت لي بتحديد مناطق تركز الإجهادات داخل الصخر، والكشف عن نقاط ضعف خفية قد تتحول مستقبلا إلى بؤر انهيار صخري إذا لم يتم التعامل معها علميا”.
ويوضح أن النتائج “أظهرت أن المقبرة، بسبب عمقها الكبير وانحدارها الحاد داخل الجبل، لا تتعرض فقط لضغوط رأسية ناتجة عن ثقل الصخور أعلاها، بل تتحول هذه الضغوط مع الزمن إلى إجهادات قص خطيرة تؤثر مباشرة في الأعمدة والأسقف”.

طفلة إسنا”.. الخطر الصامت
وأحد أخطر العوامل التي كشفتها الدراسة هو وجود طبقات طفلة إسنا في باطن الجبل الحاضن للمقبرة، ويقول د.حميدة: “هذه الصخور الطينية، التي تبدو مستقرة في حالتها الجافة، تتمدد بشكل ملحوظ عند تعرضها لأي مصدر رطوبة، سواء من تسربات مياه الأمطار أو من التغيرات المناخية”.
وهذا التمدد لا يحدث بشكل متجانس، بل يفرض ضغوطا غير متساوية على جدران المقبرة وأرضيتها، ما يفسر ظهور تصدعات دقيقة في النقوش الحجرية وميل بعض الأعمدة عبر الزمن، في ظاهرة وصفها حميدة بأنها “تشوه بطيء لكنه مستمر”.
السيول والمناخ.. ذاكرة الجبل لا تنسى
ولم تغفل الدراسة التأثير التاريخي للسيول، وعلى رأسها سيل عام 1994 الشهير، الذي أعاد لفت الأنظار إلى هشاشة النظام الجيوتقني في وادي الملوك، فالمياه المتدفقة لا تشكل خطرا لحظيا فقط، بل تترك أثرا طويل الأمد عبر تسربها إلى الفواصل الصخرية، وإضعاف البنية الداخلية للجبل.
ويشير حميدة إلى أن الجبل يحتفظ بـ”ذاكرة مائية”، حيث تستمر آثار السيول لسنوات طويلة من خلال ارتفاع الرطوبة الداخلية، ما يفاقم التفاعلات الكيميائية داخل الصخور، ويقلل من قدرتها على تحمل الأحمال.
من التشخيص العام إلى عمق ميكانيكا الصخور
ولا تقف دراسة سيد حميدة عند حدود التوصيف الظاهري، بل تغوص في صميم ميكانيكا الصخور وسلوك المادة على المستويات الميكروسكوبية. فالمقبرة، بحسب تحليله، ليست فراغا ثابتا داخل الجبل، بل نظام إنشائي في حالة صراع دائم مع قوى طبيعية تحاول على مدى آلاف السنين “إغلاق هذا الفراغ” الذي صنعه الإنسان القديم.
وتعاني الأعمدة الحاملة للصالات الكبرى من اجهادات ضغط كبيرة نتيجة للاحمال الفوقية للصخر ارتفاع ٧٩ متر وكذلك انتفاش طبقات الطفلة في الجزء السفلي من المقبرة، بالإضافة الى صغر قطاعات هذه الأعمدة وهو متر مربع فقط .
وتُظهر الحسابات الهندسية أن معامل الأمان لبعض أعمدة الصالة الكبرى يقترب من 1.1، وهو رقم يثير القلق الشديد في المعايير الهندسية الحديثة، خاصة للمنشآت الأثرية التي يُفترض أن تتمتع بهامش أمان مضاعف. هذا يعني أن أي مؤثر خارجي، ولو بسيطًا، قد يُحدث سلسلة انهيارات متتابعة يصعب احتواؤها.
كما تكشف الدراسة عن دور خطير للتجوية الملحية، حيث تتسلل الرطوبة إلى المسام الصخرية، ثم تترك خلفها بلورات أملاح تولد ضغوطا داخلية قادرة على تفتيت الحجر من الداخل إلى الخارج، مهددة الرسومات الملونة التي تُعد من أجمل ما خلفه الفن المصري القديم.

رؤية جديدة لحماية المقبرة
وأمام هذا المشهد المعقد، لم تقترح الدراسة حلولا تقليدية قد تُفقد الأثر قيمته التاريخية، بل قدمت ما يشبه “تدخلا جراحيا دقيقا ” في الهيكل الصخري. وتشمل التوصيات تدعيم الأسقف والأعمدة في قاعة الدفن باستخدام تقنيات غير مرئية، تعتمد على مواد حديثة تحافظ على الشكل الأصلي للمقبرة، دون إضافة عناصر إنشائية دخيلة.
وتركز هذه الحلول على مبدأ دعم الصخر نفسه، بدل فرض عناصر خارجية عليه، بما يضمن استعادة التوازن الإنشائي دون المساس بالرسومات والنقوش الفريدة.
كما يوصي بتحويل مقبرة سيتي الأول إلى منشأ ديناميكي يخضع للرصد المستمر، باستخدام مستشعرات دقيقة وأنظمة إنذار مبكر قادرة على التقاط أي تغير ميليمتري في الشقوق أو الأحمال قبل أن يتحول إلى كارثة إنشائية.
ويؤكد أن دراسته أراد لها تكون بمثابة مرجعا أساسيا لوزارة السياحة والآثار المصرية في فهم الحالة الإنشائية للمقبرة لضمان استمرارها للأجيال القادمة.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز




