هل هي حقاً عصور وسطى جديدة؟ ‹ جريدة الوطن

هل هي حقاً عصور وسطى جديدة؟
العصور الوسطى ولت، إلا أن الحديث عنها والشغف بها لم ينته. ولا يقتصر الأمر على أوروبا فقط. نحن هنا أيضاً في الشرق ما زال خيالنا عن العصور العظيمة لم يبارح العصور الوسطى، وإن بارحها وضعنا نصب أعيننا عظمة الآخرين. تاريخياً، أحدثت البشرية في أوروبا انقطاعاً عن العصور الوسطى في عصري النهضة والتنوير. وفيهما ظهر التاريخ بمفهومه الحديث ليقسم الحضارة البشرية إلى حقب، قديمة وكلاسيكية وعصور وسطى وتنويرية ثم الحداثة المعاصرة. قبل ذلك، كان التاريخ البشري حوليات أو سيراً، وكانت العصور تنقسم إلى سلالات، أو عصور حاضرة وأخرى غابرة، وما قبل ظهور دين وما بعده. منح التاريخ بمفهومه الحديث البشرية شيئان. الأول هو الشعور بالقدرة على الفعل، أو ما يعرف لدى الفلاسفة بالفاعلية؛ والثاني، هو مفهوم التقدم كغاية للتاريخ البشري. قبل ذلك لم يكن للتاريخ البشري غاية محددة سوى الاتجاه إلى “نهاية الأزمان”. أما التقدم الذي يسعى إليه الجميع الآن، وينتقده كثيرون أيضاً حالياً، هو اختراع حداثي. نؤمن به ويصعب علينا تحديد وجهته. الحق أننا مدينون لكل مفاهيمنا عن العالم اليوم للحداثة.
كما أننا مدينون في كل جوانب الحياة البشرية حالياً أيضاً للعصور الوسطى. هكذا رأى الفيلسوف والروائي الإيطالي الراحل أمبرتو إيكو، صاحب رواية “اسم الوردة”، وصاحب النبوءة الصادقة حول هيمنة الحماقة على وسائل التواصل الاجتماعي قبل رحيله بسنوات قليلة. ففي 1973، نشر إيكو مقالاً بعنوان “الحلم بالعصور الوسطى”، شرح فيه الحضور القوي للعصور الوسطى في مختلف جوانب الحياة الحديثة، وكيف تخلل “الحنين” إليها أكثر فترات العالم حداثة. يقول إيكو إن العصور الوسطى ما زالت حاضرة في الخيال الثقافي الحداثي وما بعد الحداثي، سواء في الأعمال السينمائية أم الروائية أم حتى في نمط العمارة. فإن كانت ناطحات السحاب في مانهاتن مغايرة تماماً لعمارة القرون الوسطى، فما زالت تعبر عن نمط إقطاعي جديد يفرق بين العامة والدهماء، وأصحاب المصالح وذوي النفوذ. إنها بلاطات ملكية تناطح السماء. الأهم من هذا أن معظم أزمات اليوم، في العقدين السابع والثامن من القرن العشرين [وربما حتى يومنا هذا] تعود جذورها إلى العصور الوسطى الأوروبية. ففي تلك العصور، تشكلت اللغات الأوروبية الحديثة، وظهرت المدن التجارية، ومعها أول أنماط الرأسمالية وأدواتها المالية والمصرفية. كما أن جذور الحوسبة الحديثة تعود إلى الرياضيات العربية التي وظفتها أوروبا في الملاحة واكتشاف العالم الجديد. وساعدت البصريات العربية أيضاً على علاج قصور النظر لدى الكتاب الذين عانوا سابقاً في التعامل مع المخطوطات رديئة الكتابة، وهو ما ساعد على ثورة المعرفة التي أفضت إلى مطبعة غوتنبرغ. يقول إيكو:
“لم تولد أي من هذه الأفكار والابتكارات في العصور الكلاسيكية، الرومانية والإغريقية، ولكن من العصور الوسطى، تعلمنا كيف نستخدمها. إن العصور الوسطى هي جذور كل أزماتنا المعاصرة “الساخنة”؛ لذا لا عجب في أننا نعود دائماً إلى تلك المرحلة في كل مرة نسأل فيها عن جذورنا… إنها الطفولة التي يسأل عنها الطبيب عندما يحاول أن يشخص أمراضنا”.
بالطبع، لم يفت إيكو، وهو سيد من يعلم عما يكبت، الإشارة إلى أن العصور الوسطى اختراع حداثي، وأن أهل هذه العصور لم يروا أنفسهم وسطاً بين عصرين. ولأنه سيميائي وتأويلي، أوضح عشرة مفاهيم يشار بها إلى العصور الوسطى تتراوح بين كونها مصدر التقاليد الدينية لمعظم العالم، أو أنها عصور البربرية والغزو، أو مصدر للرومانسية الشاعرية، أو حتى مصدر للقوميات، وغير ذلك من خيالات.
أسست مقالات وروايات إيكو لباب كامل في النقد الثقافي عرف بـ”القروسطية الجديدة”. إلا أنه لم يكن وحده من يتحدث عن هذه الظاهرة، غير أن أهل الأدب أسبق دائماً من باحثي العلوم السياسية. ففي 1977، أصدر أستاذ العلاقات الدولية هادلي بول الكتاب التأسيسي لما يعرف بالمدرسة البريطانية وهو “المجتمع الفوضوي”. وفيه أشار إلى أن العالم مقبل أيضاً على عصور وسطى جديدة. بالنسبة لبول، فإن العالم سيكون مقبلاً على ولاءات متعارضة لكيانات تفوق “سيادة الدولة” التي ستتعرض بدورها للتآكل. ففي العصور الوسطى لم تكن هناك سيادة؛ لأنه لم تكن هناك دولة قومية، ولم يكن هناك أفراد مواطنون، بل جماعات ولاؤها الأساسي لكيانات أكبر مثل الكنيسة والإمبراطورية والخلافة، أو ربما لكيانات أقل من الدول مثل الفرسان والإقطاعيين. وفي هذا، لم يختلف الشرق كثيراً عن الغرب؛ إذ كان نمط الإنتاج الزراعي متشابهاً في كل مكان قريباً.
أما العصور الوسطى الجديدة، حسب بول، فالولاء فيها لكيانات أعلى من الدول مثل التجمعات الإقليمية، أو الشركات العابرة للحدود، أو للكيانات الثقافية والعرقية والدينية المتجاوزة للتعريفات الوطنية، أو ربما لتنظيمات دولية تفوق قوتها قوة الدول مثل مجموعة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي وغيرها. لا يعني هذا أن الدولة القومية ستختفي، بل على العكس؛ ستكون مجرد فاعل من فواعل كثيرة، ولن تكون لها السلطة المطلقة على الإقليم الذي تحكم أو الشعب الذي تدين له بالحماية وتقديم الخدمات، مقابل الإقرار بالسيادة. يقول بول إن العصور الوسطى الجديدة ستكون علمانية على عكس تلك القديمة، وفيها “الولاءات متداخلة، والسلطة متعددة”؛ إنها نهاية النظام الويستفالي.
بشكل أو بآخر، تحقق ما توقعه بول. وإن ما زالت الدولة القومية قائمة وربما تتمدد بفعل التطور التقني وقدرتها على السيطرة على كافة جوانب حياة المواطنين. إلا أن العالم يشهد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي موجات انهيار للدول والأنظمة وسيادة حالة من الفوضى التي سرعان ما تنتقل إلى دول وربما مناطق مجاورة. ولو نظرنا إلى مؤشر الدول “الهشة” الذي يصدره سنوياً صندوق السلام العالمي لوجدنا أن أغلب دول العالم تتراوح بين حالة التحذير الحاد وحالة التحذير من الهشاشة سواء بسبب الحروب الأهلية أم الغزو أم الصراع على الموارد، أم الانقسامات الثقافية والاجتماعية الحادة، فضلاً عن تراجع الحوكمة. يطلق البعض على هذه الظاهرة “الفوضى المستدامة” ويرجعها إلى عولمة الأزمات التي تعمق ضعف وهشاشة الدولة أمام التدخل الخارجي الذي يأتي في شكل “تأثير الفيض”؛ حيث يفيض العنف من بلد لآخر مجاور بسبب هشاشة الأوضاع الاقتصادية والسياسية. ولا يختلف الأمر كثيراً عن العصور الوسطى، فصراع ديني واحد في براغ في 1618 كان كفيلاً بإشعال حرب شاملة في أوروبا لثلاثين عاماً انتهت بوستفاليا في 1648.
ربما كانت اللحظة المثالية الأقرب ليومنا هذا للشعور بالفوضى المستدامة هي فترة وباء الكورونا، “كوفيد19”. وفيها هيمن أيضاً الخيال القروسطي على تخيل العالم للمستقبل. وسرعان ما استحضر الجميع “الوباء الأسود” الذي ضرب العالم في القرن الرابع عشر، على الرغم من أن وباء الإنفلونزا الإسبانية بعد الحرب العالمية الأولى أقرب عهداً؛ لكن الحنين القروسطي الذي تحدث عنه إيكو غلاب. وإذا ما أضفنا إلى عودة الأوبئة التهديدات العسكرية والحروب والصراعات الإثنية المزمنة في بعض المناطق والكامنة في مناطق أخرى، والتهديد المناخي، واللجوء والهجرات غير الشرعية والاضطرابات الاجتماعية العنيفة، فيمكننا أن نقول إن عالم اليوم، كما تتناقله الأنباء، يشبه لوحة “انتصار الموت” لبيتر بروغل الصغير في القرن السابع عشر. غير أنها ستكون أشبه إلى تلك الأعمال الرديئة التي تنتجها تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي.
على أن أخطر ما تواجهه سيادة الدولة هو “السوق” خاصة السوق الرقمية. سابقاً، أشار ستيقن كوبرين إلى أن الاقتصاد الرقمي الناشئ سيؤدي إلى نزع الحدود عن الأسواق الوطنية من خلال انتظام هذا الاقتصاد في شركات رقمية متعددة الجنسيات؛ بحيث ستكون لديها القدرة على التفاوض وإبرام الشراكات دون التقيد بالقوانين الوطنية، وسيصحب هذا ظواهر جماعات وأفراد غير مقيدين بالولاء للدولة، بل لرؤوس الأموال العابرة خلال وفوق حدودها. كان هذا في التسعينيات، وكانت شركات مثل مايكروسوفت وأمازون وآبل ما زالت ناشئة. أما الآن، وقد انضمت إليها “ميتا” و”إنفيديا” و”أوبن أيه آي” وغيرها من عمالقة التقنية، فقد توسعت الظاهرة، وأصبحت سلطة هذه الشركات تفوق سلطة الكثير من الدول؛ وأصبح على كيان فوق وطني مثل الاتحاد الأوروبي أن يحاول تنظيم هيمنة بعض هذه الشركات على السوق الأوروبية، أو وضع ضوابط تنظيمية وأخلاقية لاستغلال بيانات مواطنيه.
يطلق وزير المالية اليوناني الأسبق يانس فاروفاكيس على هذه الظاهرة “الاقطاعية التقنية” باعتبارها أعلى تحولاً حالياً في تطور الرأسمالية. ووفقاً لهذا الفهم، فقد أصبحت السوق الرأسمالية “أراضٍ رقمية” ينظمها سادة إقطاعيون مطلقو السيادة على ما يحوزونه من حصة سوقية، يقومون فيها باستغلال واستخراج ومعالجة البيانات المولدة في هذه المساحة، وإعادة بيعها ودر الأرباح منها. في العصور الوسطى، لم يكن الإقطاعيون مشاركين في الإنتاج الذي يقوم به الفلاحون والأقنان؛ لكنهم كانوا يتربحون من الريع. والريع حالياً، هو ربح بلا إنتاج؛ وهو ما يعيد إنتاج رؤوس الأموال حالياً. فقطعاً أفلام ومسلسلات أمازون وأجهزة الكيندل، لا تدر أرباحاً على جيف بيزوس مثل تسويق المنتجات الأخرى. ومهما أنتجت شركة ميتا من أشياء، فلن تجني أرباحاً أكثر مما تجنيه من بيع ومعالجة بيانات المستخدمين.
بالطبع لاقت نظرية “الإقطاعية التقنية” انتقادات كثيرة سواء من المؤرخين أم من نقاد الرأسمالية على السواء. إلا أن الثابت لدى الجميع أن السوق الرقمية لا تخدم سيادة الدولة، أو على الأقل دول الهامش غير القادرة على التفاوض مع هذه الشركات أو تنظيم استغلالها لبيانات المواطنين/ المستخدمين لديها. ويبدو أن الجميع تجاوز فكرة السماح باستغلال بيانات المواطنين، للتفاوض عليها فقط. وقد لا يُخل هذا الاستغلال بالتعريف القانوني للدولة. إلا أن ما ينقض هذا التعريف ظاهرة أخرى تنتمي أيضاً إلى العصور الوسطى، “العنف غير الرسمي المتجاوز للحدود”. فالدولة في التعريف الحديث هي الهيئة الاجتماعية التي تحتكر الاستخدام الشرعي للعنف. أما الآن فقد أصبح من الشائع خصخصة العنف مع عودة المرتزقة بقوة تحت عنوان “شركات الأمن الخاصة” أو “المتعاقدين” وأصبح لهم حضور طاغٍ في كل صراعات القرن الحادي والعشرين؛ حيث توظفهم الدول، والمليشيات، بل والشركات صاحبة المصالح في مناطق الصراع، بل أصبح من الشائع أيضاً استغلال المرتزقة في الهجمات السيبرانية.
يتوقع كثيرون أن مستقبل الحروب سيكون قائماً على المرتزقة، خاصة أنهم كانوا القوة المقاتلة في معظم حروب العالم منذ القدم، حتى اختراع الجيوش الوطنية مع بداية الدولة الحديثة. ففي العصور الوسطى، كان رعايا الإقطاع مشغولون بالزراعة والحرف والتجارة، فاستدعى الأباطرة والخلفاء والسلاطين، المقاتلين المحترفين من مناطق بعيدة من شمال أوروبا ووسط إفريقيا وسهوب آسيا للقتال مقابل المال. وربما يتكرر هذا النمط باتساع، مع تحول العنف إلى سوق خاصة. بالطبع، لو أضفنا إلى صورة المرتزقة استمرار وجود أمراء الحرب والمليشيات وزعماء الكارتلات في معظم مناطق الصراع، يتضح أكثر ما تواجهه سيادة الدولة.
مع اقتراب الحرب الباردة من نهايتها، كتب إيكو مرة أخرى عن “العيش في العصور الوسطى”؛ حيث قال إن العصور الوسطى دائماً ما تأتي بعد انهيار كبير للإمبراطوريات وما تمثله من هيمنة ثقافية وسياسية وعسكرية. تاريخياً كان هذا صحيحاً، فقد ظهرت العصور الوسطى في أوروبا وحوض المتوسط بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، كما ظهرت العصور الوسطى في الهند بعد انهيار إمبراطورية غوبتا، وفي الصين بعد انهيار سلالة الهان. فلكل نطاق حضاري حظه من العصور الوسطى، وإن اختلفت هذه الحظوظ أيضاً من درجة تقدم الفنون والعلوم والتكنولوجيا. إلا أن المشترك بين كل العصور الوسطى هو حالة تفكك نظام الدول؛ حيث تخلف السلالات المهيمنة دول أصغر.
عند النقاش حول ما سيأتي بعد تآكل الهيمنة الغربية والأمريكية على العالم، يمكننا استدعاء هذه الحالة القروسطية أيضاً. فمن غير المرجح أن ينتقل العالم إلى هيمنة إمبراطورية أخرى، وقد يتحول إلى نظم دولية متوازية ومتنافسة. قد يعزز هذا السيناريو التفكك الذي يشهده الاقتصاد الدولي لصالح الحمائية وفرض القيود على حركة السلع ورؤوس الأموال لصالح الاقتصادات الوطنية أو الإقليمية. فضلاً عن الاتجاه إلى بناء تجمعات إقليمية تحاول موازنة القوى الغربية بقيادة الصين وروسيا والهند، فضلاً عن الجنوب العالمي الذي يبحث عن دور.
قطعاً، لا نعيش في عصور وسطى جديدة. خاصة أن المقارنة التاريخية بين التحولات الأخيرة التي يشهدها العالم وتعود في جذورها إلى نهاية الحرب الباردة بالعصور الوسطى غير دقيقة، مثل كل القراءات التي تحاول إيجاد تماثلات بين الحاضر والعصور السابقة. فالعصور الوسطى تشكلت عبر مئات السنين، وما زال العالم قيد التشكل منذ عقود فقط. إلا أن الجيد في هذه المقارنة هو أن التقدم ليس حتمياً وأن التاريخ قد يشهد نكوصاً بعودة أنماط سياسية واقتصادية وعسكرية ولت إلى المستقبل. كما أن تطور التقنيات ليس كفيلاً بدفع العالم إلى الأمام؛ فقد يترافق تطور التقنية مع نكوص الحداثة؛ وتتحول تلك التقنيات إلى مجرد أدوات لإعادة بُنى المجتمع القديم. والتاريخ دائماً ما ينتصر على التقنية. كما قال ويليام فوكنر: الماضي لا يموت، بل إنه ليس ماضياً من الأصل.