اسعار واسواق

بين الحذر والطموح.. هل يمنح «العملاق النائم» أوروبا استقلالها الدفاعي؟


بين ضغوط الحرب في أوكرانيا، وتراجع المظلة الأمريكية تدريجيًا، تتهيأ بروكسل لتحويل «العملاق النائم» إلى أداة قادرة على صياغة ملامح استقلال دفاعي نسبي بحلول 2030.

فبعد عقدين من الركود الدفاعي، تتحرك مؤسسات الاتحاد الأوروبي لإحياء وكالة الدفاع الأوروبية، في خطوة تُقرأ كإعلان عن بداية سباق إعادة التسلّح المنظّم داخل القارة العجوز.

لكن هذا الإحياء لا يخلو من تعقيدات؛ فالمسار بين الطموح الأوروبي وواقع الوصاية الأطلسية لا يزال محفوفًا بالتوازنات الدقيقة بين الناتو والاتحاد، فينما ترى بعض الدول الشرقية فيه تهديدًا للضمانة الأمريكية، يعتبره آخرون ضرورة وجودية في عالم تتغير تحالفاته بسرعة.

وبين الشكوك والطموح، تمضي أوروبا نحو اختبار إرادتها الدفاعية الحقيقي لأول مرة منذ الحرب الباردة، فهل تنجح؟

يقول ميشال دوكلو الدبلوماسي السابق والمستشار الخاص في مركز السياسات الأوروبية في حديث لـ«العين الإخبارية»، إن إحياء وكالة الدفاع الأوروبية قد يمنح الاتحاد الأوروبي فرصة نادرة لبناء «نواة دفاعية مستقلة»، معتبراً أن هذه الاستقلالية لن تكون كاملة في المدى المنظور، لأن حلف الناتو لا يزال يشكل المظلة الأمنية الفعلية للقارة.

وأضاف أن «إحياء وكالة الدفاع الأوروبية هو بلا شك إشارة سياسية قوية، تعني أن أوروبا تريد أن تسمع صوتها في المجال الأمني. لكنها في الوقت ذاته، ليست خطوة نحو الانفصال عن حلف شمال الأطلسي، بل نحو تحقيق توازن جديد في العلاقة معه».

وشرح دوكلو أن نقاط التصادم المحتملة تكمن في التداخل بين صلاحيات الوكالة الأوروبية وصلاحيات الناتو، خصوصًا في مجالات التخطيط العسكري والتجهيز الصناعي، حيث «تخشى بعض الدول، خاصة في أوروبا الشرقية، أن يؤدي أي مشروع دفاعي مستقل إلى إضعاف الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا».

فرصة تاريخية

في المقابل، يرى دوكلو أن هناك فرصة تاريخية لنجاح هذا المسار، لأن البيئة الدولية تغيرت جذريًا، مشيرًا إلى أن حرب أوكرانيا أبرزت الحاجة إلى قدرات دفاعية أوروبية موحدة وسريعة التحرك، خصوصًا في مجال الذخيرة والصناعات العسكرية.

وتابع أن الولايات المتحدة نفسها تشجع أوروبا على تحمّل مسؤوليات أكبر في أمنها، نظراً لانشغالها المتزايد بالمحيطين الهندي والهادئ.

ورأى أن تطور التكنولوجيا الدفاعية الأوروبية (في مجالات الطائرات المسيرة، والذكاء الاصطناعي العسكري، والقدرات السيبرانية) يمنح الاتحاد أدوات جديدة لفرض استقلاليته العملياتية.

وإذا نجحت وكالة الدفاع الأوروبية في تنسيق برامج التسليح وتوحيد المواصفات الفنية وخلق سوق دفاعية أوروبية حقيقية، فستكون قد وضعت الأساس الفعلي لاستقلال دفاعي نسبي عن الناتو، يقول دوكلو، مضيفا أنه إذا ظلت رهينة الخلافات بين الدول، فستبقى خطوة رمزية أخرى تُضاف إلى سلسلة من المبادرات غير المكتملة.

فبعد أن وصفت الوكالة بـ«الجميلة النائمة» التي لم تحقق طموحاتها منذ إنشائها عام 2004، يبدو أن اجتماع قادة الدول السبع والعشرين في بروكسل يمثل بداية مرحلة جديدة تجعلها أداة مركزية لبناء استقلالية دفاعية أوروبية حقيقية بحلول عام 2030.

وتأسست وكالة الدفاع الأوروبية عام 2004 لتشجيع التعاون بين الدول الأعضاء الراغبة في تطوير قدراتها الدفاعية، غير أنها لم تحقق نتائج ملموسة.

وخلال سنوات ما بعد الحرب الباردة، ومع تركيز أوروبا على جني «عائدات السلام» ثم مواجهة الأزمات المالية، انخفضت النفقات الدفاعية المشتركة من 219 مليار يورو عام 2005 إلى 189 مليار يورو عام 2014، بحسب بيانات مجلس الاتحاد الأوروبي.

في تلك الحقبة، فضلت الدول الأوروبية دعم صناعاتها العسكرية الوطنية بدلاً من إطلاق مشاريع تعاون مشتركة.

إحياء مفاجئ

من جانبها، قالت كلود-فرانس أرنولد، الباحثة في مركز الأبحاث الجيوسياسية BIG والمديرة السابقة للوكالة لـ«العين الإخبارية»: «كان بعض القادة الأوروبيين يخشون ببساطة فقدان السيطرة على سلاسل الإمداد العسكرية، مما كان سيشكل خطراً على قدراتهم الدفاعية الوطنية».

وأضاف أن الوضع تغير جذرياً، فمع تصاعد التهديد الروسي والحرب في أوكرانيا، باتت الحاجة إلى إعادة التسلّح الأوروبي أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

ويجتمع قادة الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع في بروكسل لمنح الوكالة دفعة قوية تعيد تعريف دورها. ووفق مسودة بيان القمة، سيؤكد الزعماء ضرورة «تعزيز وكالة الدفاع الأوروبية لتضطلع بدورها الكامل في تطوير القدرات الدفاعية والبحوث والتعاقدات المشتركة»، مع دعوة الدول الأعضاء إلى توجيه نفقاتها نحو الإنتاج والتوريد الجماعي بدعم مباشر من الوكالة.

ويعلق أحد الدبلوماسيين الأوروبيين قائلاً: لو لم تكن وكالة الدفاع الأوروبية موجودة، لاضطررنا إلى إنشائها اليوم، بحسب صحيفة “ليزيكو” الفرنسية.

وضوح في الأدوار وتقاسم في السلطة

وتتولى لجنة توجيهية تضم وزراء دفاع الدول الـ27 وضع الاستراتيجية العامة للوكالة، برئاسة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد.

وقد ساهم اجتماع كوبنهاغن الأخير في توضيح العلاقة بين الوكالة والمفوضية الأوروبية، خاصة بعد أن أثارت تصريحات أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية، قلق بعض القادة الذين اعتبروا أنها تجاوزت صلاحياتها في المجال الدفاعي.

وتوضح مصادر في المفوضية أن الإدارة العامة للدفاع والفضاء، التي لا تضم سوى نحو 300 موظف، غير قادرة على القيام بالمهام الفنية المعقدة المطلوبة من وكالة الدفاع الأوروبية، ما يجعل الأخيرة الجهة الأنسب للإشراف على التنسيق مع وزارات الدفاع الوطنية.

توسع في الكفاءات والتوظيف

وتضم الوكالة حالياً نحو 230 موظفاً، لكنها تستعد لتوظيف خبراء جدد، خصوصاً في مجالات العقود العسكرية والتمويل المشترك. ويقود عملية إعادة الهيكلة الجنرال الألماني أندريه دينك، الذي تولى إدارة الوكالة في مايو الماضي بعد أن خدم في أفغانستان والبوسنة.

ومن المقرر أن تقدم الوكالة تقريراً سنوياً في الخريف حول تقدم خطة إعادة التسلح الأوروبية، لأن «الأهداف التي لا تُقاس، لا تتحقق»، بحسب خبير في المفوضية.

وترى أرنولد أن الممثل الأعلى للشؤون الخارجية، الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس المفوضية، «لا يملك الوقت الكافي للخوض في التفاصيل التقنية المعقدة لعمل الوكالة»، داعية إلى «تعيين شخصية رفيعة المستوى تتفرغ لتوفير زخم دائم لقيادة اللجنة التوجيهية».

من جهته، قال الباحث الفرنسي برونو تيرتريه، نائب مدير مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية في باريس، إن إعادة تنشيط وكالة الدفاع الأوروبية ليست مجرد إجراء بيروقراطي، بل «خطوة استراتيجية تعكس وعي الأوروبيين بأن الاعتماد على الولايات المتحدة لم يعد مضموناً. الاتحاد الأوروبي يسعى الآن لتأسيس قاعدة دفاعية متكاملة تتيح له التحرك بسرعة في أوقات الأزمات».

وأضاف أن «الوكالة يمكن أن تصبح خلال السنوات الخمس المقبلة العمود الفقري للتعاون الدفاعي الأوروبي، شرط أن يتجاوز القادة التردد السياسي ويقبلوا بتقاسم السيادة في مجال حساس كالتسليح».

من جهته، أوضح فرانسوا هيسبورغ، الخبير الفرنسي في شؤون الأمن الأوروبي والمستشار في مؤسسة المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، لـ«العين الإخبارية» أن «التهديدات التي تواجه أوروبا اليوم، من الحرب الروسية إلى التوتر في الشرق الأوسط — تجعل من بناء قوة دفاعية أوروبية أمراً وجودياً، وليس خياراً سياسياً».

وتابع قائلاً: «التحول الجاري داخل وكالة الدفاع الأوروبية يمثل لحظة حاسمة في تاريخ الاتحاد، شبيهة بما حدث عند إنشاء السوق الموحدة في الثمانينيات. إنها لحظة انتقال من التنسيق البيروقراطي إلى الفعل الاستراتيجي».

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=

جزيرة ام اند امز

NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى