اسعار واسواق

سياسات ترامب التجارية تربك أسواق العالم وتمنح الصين فرصة لتوسيع نفوذها الاقتصادي

اقتصاد

استراتيجية التدمير الذاتي


شكل اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره الصيني شي جين بينغ الشهر الماضي لحظة تهدئة مؤقتة في الحرب التجارية بين البلدين، لكنه لم يحقق أي اختراق حقيقي في معالجة جذور التوتر المتصاعد بين واشنطن وبكين.

بدلا من أن يؤسس لمرحلة جديدة من التفاهم، أكد اللقاء الارتباك العميق في السياسة الأمريكية تجاه الصين خلال الولاية الثانية لترامب، إذ تخلى الرئيس عن نهج إدارة بايدن، بل وعن المنحى الاستراتيجي الذي تبنّاه هو نفسه في ولايته الأولى.

وعلى مدى العقدين الماضيين، قامت السياسة الأمريكية تجاه الصين على رهان خاسر مفاده أن إدماج بكين في النظام التجاري العالمي سيقود إلى انفتاحها الاقتصادي والسياسي، وبالتالي انسجامها مع المصالح الغربية.

غير أن هذا الرهان انهار بالكامل؛ فالصين تحولت إلى منافس اقتصادي صلب يسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي وفق مصالحه، بينما تأخرت واشنطن في المواجهة حتى أصبحت صناعاتها مهددة في قطاعات حيوية.

وفي الولاية الأولى لترامب ثم خلال عهد بايدن، صاغت الولايات المتحدة استراتيجية متماسكة لمواجهة الصعود الصيني، تجمع بين الرسوم الانتقائية والدعم الصناعي والاستثمار في التكنولوجيا النظيفة، إلى جانب تنسيق وثيق مع الحلفاء.

لكن إدارة ترامب الثانية انقلبت على تلك السياسة، مستبدلة إياها بنهج صفقات قصيرة الأجل تُغلّب الحسابات المالية على الأهداف الاستراتيجية.

فقد فرضت الإدارة الجديدة رسومًا جمركية شاملة على جميع الشركاء التجاريين لا على الصين وحدها، بهدف تحصيل إيرادات تُقدَّر بين 300 و400 مليار دولار سنويًا لتعويض خفض الضرائب، وهو ما جعل هذه الرسوم ضريبة غير مباشرة على المصانع والمستهلكين الأمريكيين. وبدل أن تكون أداة لحماية الصناعة الوطنية، أصبحت عبئًا يرفع كلفة الإنتاج ويقوّض التنافسية الأمريكية.

الأخطر أن هذه السياسات تُنفّذ في وقت تحتاج فيه واشنطن إلى توطيد تحالفاتها أكثر من أي وقت مضى. ففرض الرسوم على دول حليفة مثل أستراليا والمملكة المتحدة، في حين تُخفَّف عن الصين، أحدث صدمة دبلوماسية وأضعف الثقة في القيادة الاقتصادية الأمريكية.

وبذلك تجد بكين نفسها تستفيد من ارتباك واشنطن لتوسيع شبكات إنتاجها في آسيا، بينما تخسر الولايات المتحدة شركاءها التقليديين.

داخليًا، ألغت إدارة ترامب الثانية برامج دعم الابتكار والطاقة النظيفة، وقيّدت منح التأشيرات للعلماء الأجانب، ما يضعف منظومة الابتكار الأمريكية التي كانت ركيزة تفوقها التكنولوجي.

كما أوقفت حوافز السيارات الكهربائية والبطاريات والطاقة البديلة التي أُقرت لمواجهة الهيمنة الصينية، لتعيد تمكين بكين من قيادة سوق السيارات الكهربائية والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة.

وفي قطاع أشباه الموصلات، الذي يُعد حجر الزاوية في الاستراتيجية التكنولوجية الأمريكية، أدت تعديلات إدارة ترامب على «قانون الرقائق» إلى تحويل الدعم الفيدرالي إلى مساهمات حكومية مباشرة في الشركات، من دون إلزامها بمعايير تصنيع متقدمة، في نموذج يشبه إلى حد بعيد رأسمالية الدولة الصينية التي طالما انتقدتها واشنطن.

كما تراجعت الإدارة عن ضوابط تصدير التقنيات الحساسة إلى الصين، فبعد تهديد بكين بتقييد صادرات المعادن النادرة، ألغت واشنطن بعض القيود وسمحت لشركاتها ببيع رقاقات متقدمة مقابل أرباح مشتركة مع الحكومة الصينية، في مقايضة مالية تهدد الأمن القومي الأمريكي.

وفي اتفاق لاحق، وافقت واشنطن على تأجيل القيود التكنولوجية مقابل تأجيل صيني مماثل، لتكسر بذلك خطًا أحمر تاريخيًا كان يمنع المساومة على قضايا الأمن القومي في المفاوضات التجارية.

وتزامنت هذه التحولات مع سياسات مالية ونقدية تهدد الثقة بالدولار الأمريكي، في وقت تكثف فيه الصين حملتها لـ«إزالة الدولرة». فالتوسع الهائل في الدين العام الأمريكي، والهجمات السياسية على استقلالية الاحتياطي الفيدرالي، أدّيا إلى إضعاف مكانة الدولار ورفع تكاليف الاقتراض، ما يهدد أحد أهم مصادر النفوذ الأمريكي في النظام المالي العالمي.

تؤكد هذه المؤشرات أن سياسة ترامب الجديدة لا تجعل «أمريكا أولًا»، بل تضعها في موقع المتراجع أمام منافسها الصيني. فالنهج القائم على الضرائب العشوائية وإضعاف التحالفات وتقويض الابتكار يقوّض ركائز التفوق الأمريكي التي بُنيت خلال قرن.

والاستراتيجية الناجحة، وفق محللين، تقتضي من واشنطن تعزيز نقاط قوتها في التكنولوجيا والتحالفات والابتكار المؤسسي، لا تقويضها باسم الشعارات الانتخابية. فمواجهة الصين لا تكون بتقليدها، بل بتعزيز ما يميز أمريكا: انفتاحها، مؤسساتها المستقلة، وقدرتها على حشد العالم حول نموذجها الاقتصادي الحر.

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى