بعد العام الأول.. كيف تعيد ولاية ترامب الثانية تشكيل أمريكا والعالم؟

بين أنصار يرونه منقذًا للنظام الأمريكي ومعارضين يعتبرونه «تهديدًا»، يُجمع محللون على أن العام الأول من الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب كان استثنائيًا.
فقد شهد مزيجًا غير مسبوق من التحديات الداخلية، والتحولات الجيوسياسية، والقرارات المثيرة للجدل التي جعلت إدارته الثانية أكثر حسمًا وتأثيرًا من الأولى، وفق تحليل لـ«فورين أفيرز».
ورغم أن كثيرًا مما حدث خلال العام بدا مفاجئًا، فإن جزءًا كبيرًا منه كان متوقعًا منذ لحظة فوزه، إذ أظهر ترامب منذ حملته الانتخابية الثانية أنه يعتزم الحكم بأسلوب أكثر انضباطًا في الولاء وأقل خضوعًا للمؤسسات، مستندًا إلى قاعدة انتخابية صلبة وكونغرس يهيمن عليه أنصاره.
إدارة الولاء أولاً.. والكفاءة ثانياً
ومنذ الأسابيع الأولى بعد إعادة انتخابه، بدأ ترامب في إعادة تشكيل الحكومة الأمريكية على أسس جديدة، كان أبرزها الولاء الشخصي المباشر له.
وفي حين اعتمد رؤساء سابقون على الخبرة أو التوازن السياسي، اختار ترامب فريقًا مكوّنًا من وجوه توصف داخل واشنطن بأنها «صدامية» أو «غير تقليدية»، معروفة بجرأتها واستعدادها لتنفيذ أوامره دون تردد.
وظهر ذلك بوضوح في تعيينات الصف الأول من الإدارة، حيث منح مناصب حساسة لأسماء تدين له بالولاء السياسي الكامل، بينما استبقى بعض الوجوه ذات الثقل المؤسسي مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ووزير الخزانة سكوت بيسنت لطمأنة الأسواق والحلفاء.
وقد أُطلق على فريقه الجديد داخل البيت الأبيض اسم «حلقة الثقة»، وهو مصطلح يصف مجموعة محدودة من المستشارين المقربين الذين يمتلكون صلاحيات واسعة في توجيه القرارات اليومية.
حرية مطلقة في السياسة الخارجية
دخل ترامب ولايته الثانية محصنًا بخبرة السنوات الأربع السابقة، لكنه أيضًا متحرر من كثير من القيود القانونية والدبلوماسية التي كبّلته في بدايته عام 2017.
فلم يعد هناك التزام باتفاق نووي مع إيران بعد انهياره، ولا حرب مفتوحة في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية، كما أن المؤسسات الدولية التي كانت تضغط عليه — مثل منظمة التجارة العالمية — فقدت جزءًا كبيرًا من نفوذها بعد الجائحة.
هذا الوضع منح ترامب حرية شبه مطلقة في صياغة السياسة الخارجية وفق رؤيته الخاصة، التي تقوم على مبدأ «أمريكا أولاً» بصيغته الأكثر صرامة.
أعاد فرض رسوم جمركية واسعة النطاق، وعلّق اتفاقات تجارية متعددة، وقلص المساعدات الخارجية، معتبرًا أن الولايات المتحدة «لن تموّل أعداءها بعد اليوم».
وفي المحافل الدولية، أصبحت السياسة الأمريكية أكثر حدة؛ إذ لجأت واشنطن إلى دبلوماسية الضغط الأقصى تجاه خصومها، بينما استخدمت العقوبات الاقتصادية كسلاح سياسي رئيسي، من فنزويلا إلى كوريا الشمالية وإيران.
المؤسسة العسكرية
لطالما عبّر ترامب عن قناعته بأن المؤسسة العسكرية «جزء من الدولة العميقة» التي سعت لتقييد سلطاته خلال ولايته الأولى. ومع عودته إلى البيت الأبيض، قرر هذه المرة المواجهة المباشرة.
فبعد أيام من تنصيبه، أقال 15 ضابطًا من كبار قادة الجيش دون تقديم مبررات فردية، في خطوة صدمت المؤسسة الدفاعية لكنها عكست توجّهًا متعمّدًا لإعادة رسم العلاقة بين الرئاسة والبنتاغون.
كما اتخذ قرارات مثيرة للجدل داخل البلاد، إذ نشر وحدات من الحرس الوطني في مدن أمريكية كبرى مثل شيكاغو ولوس أنغلوس وواشنطن العاصمة، لحفظ النظام ومواجهة ما وصفه بـ«الاضطرابات المتطرفة».
وفي سابقة تاريخية، أُرسلت وحدات من قوات مشاة البحرية إلى لوس أنغلوس خلال احتجاجات على سياسات الهجرة، ما أثار موجة انتقادات حادة من حكام الولايات ومسؤولي الأمن السابقين.
وذهبت الإدارة أبعد من ذلك حين ناقشت علنًا احتمال تفعيل «قانون التمرد»، الذي يمنح الرئيس سلطات استثنائية لاستخدام الجيش الفيدرالي لإنفاذ القانون داخل الأراضي الأمريكية.
وبذلك أصبح ترامب أول رئيس منذ عقود ينظر إلى الجيش كأداة مباشرة لإدارة الشؤون الداخلية، لا مجرد مؤسسة دفاعية خارجية.
تحوّل استراتيجي: من بكين إلى كراكاس
وبينما توقّع كثير من المحللين أن يستمر ترامب في تصعيد المواجهة مع الصين، اتضح خلال الأشهر الأولى من ولايته الثانية أن الملف الصيني لم يعد يحتل الصدارة في أجندته.
وتحوّلت العلاقة مع بكين إلى نزاع تجاري خالص، يتركز على المعادن النادرة وسلاسل الإمداد، فيما اختفت اللغة التصادمية التي سادت في عهد حملته الأولى.
لكن بالمقابل، ظهر اندفاع مفاجئ نحو نصف الكرة الغربي.
فقد زار ترامب دول أمريكا اللاتينية أكثر من أي رئيس أمريكي خلال عامه الأول، وأعاد إحياء أفكار كانت تُعتبر «دعابات انتخابية» في الماضي، مثل اقتراحه ضمّ كندا أو جزيرة غرينلاند.
وفي ملفات أكثر حساسية، أعاد ترامب الحديث عن استعادة السيطرة الأمريكية على قناة بنما، وسمح لوزارة الدفاع بدراسة ضربات جوية محدودة ضد مواقع في شمال المكسيك لمكافحة العصابات، كما أعلن رفضه لنظام فنزويلا، بل أكد لاحقًا أنه أجاز عمليات سرية لوكالة الاستخبارات المركزية في تلك البلاد.
الكونغرس تحت قبضة البيت الأبيض
ومن أبرز ملامح ولاية ترامب الثانية توسّع سلطاته التنفيذية إلى حد غير مسبوق.
فرغم الأغلبية البسيطة التي يمتلكها الجمهوريون في مجلسي النواب والشيوخ، إلا أن ترامب نجح في تحويل الكونغرس إلى ساحة شخصية.
فأكثر من 90% من النواب الجمهوريين يصوتون معه في جميع القضايا الجوهرية، والذين يعارضونه يتعرضون لهجمات مباشرة من قاعدته الانتخابية المنظمة.
ومكّنته هذه السيطرة من تمرير قرارات مصيرية من دون مقاومة تُذكر، منها:
- تقليص المساعدات الخارجية للدول التي «لا تدعم المصالح الأمريكية».
- تعليق المخصصات الأمنية لأوكرانيا.
- تعديل قواعد الرقابة البرلمانية على الأجهزة التنفيذية.
- وقف الإفصاحات الدورية أمام لجان الأمن والاستخبارات في الكونغرس.
ويرى محللون في واشنطن أن ما يحدث قد يؤدي إلى إعادة تعريف مبدأ الفصل بين السلطات في الدستور الأمريكي، ويمنح الرئيس نفوذًا يتجاوز حدود المؤسسة التشريعية.
«الدور الاستراتيجي»
خارج الحدود، تواصل الولايات المتحدة انسحابها البطيء من أدوارها التقليدية كقائد للنظام الدولي.
ففي الشرق الأوسط، أعادت إدارة ترامب رسم أولوياتها عبر خطة شاملة لإنهاء حرب غزة بالتعاون مع إسرائيل وعدد من الدول العربية، بينما تراجعت حدة الانخراط العسكري الأمريكي في أوروبا وآسيا.
هذا التراجع خلق فراغًا استراتيجيا تسعى الصين وروسيا لملئه، وسط غياب رؤية جماعية من الحلفاء الغربيين لتعويض الدور الأمريكي.
مستقبل مفتوح على كل الاحتمالات
يتوقف مصير النصف الثاني من ولاية ترامب الثانية على نتائج انتخابات الكونغرس عام 2026.
فإذا استعاد الديمقراطيون الأغلبية، فستعود أدوات الرقابة والمساءلة بقوة، أما إذا احتفظ الجمهوريون بسيطرتهم الحالية، فسيكون أمام ترامب عامان من السلطة المطلقة لترسيخ إرث سياسي طويل الأمد.
وعلى الساحة الدولية، من المرجح أن تواصل إدارته سياسة البراغماتية الصلبة القائمة على المصالح الاقتصادية أولاً، مع تقليص الالتزامات العسكرية طويلة المدى.
وخلص تحليل «فورين أفيرز» إلى أنه بعد عام واحد فقط من ولايته الثانية، أثبت ترامب أنه رئيس قادر على تغيير ملامح النظام الأمريكي بعمق، من إعادة تشكيل العلاقة بين الجيش والرئاسة، إلى تبديل أولويات السياسة الخارجية، وفرض السيطرة على الكونغرس، وأنه أعاد تعريف دور الرئاسة الأمريكية بما يتجاوز المألوف في تاريخها الحديث.
وأشار إلى أنه سواء أحبّه خصومه أو كرهه مؤيدوه، تبقى الحقيقة أن ترامب أعاد هندسة القوة الأمريكية وفق رؤيته الخاصة، وأن آثار هذا العام الأول من ولايته الثانية ستظل حاضرة في السياسة والاقتصاد والأمن الدولي لسنوات قادمة.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=
جزيرة ام اند امز




