سقوط بوكروفسك الأوكرانية يقرع أجراس الغرب.. هل تتحرك الدبلوماسية؟

في بوكروفسك، لم يسقط مجرد مربع جغرافي، بل انكشف جزءٌ من معادلة الحرب التي تُعاد صياغتها في الظل بين موسكو وواشنطن.
فالمدينة التي صمدت 18 شهرًا تحوّلت إلى مرآة تكشف حجم الإنهاك البنيوي لدى أوكرانيا، مقابل استعداد روسي لدفع كتل بشرية ضخمة مهما بلغت الكلفة.
ومع أن كييف ترى في التراجع خطوة تكتيكية وليست هزيمة نهائية، إلا أن ما جرى يكشف عن أزمة أكبر: عجزٌ متزايد عن ترميم الخطوط الدفاعية، وتراجعٌ في قدرة الجيش على إسناد الجبهات المتوازية، تمامًا في الوقت الذي يختبر فيه الروس حدود طاقة الدولة الأوكرانية على الاحتمال.
فماذا يعني سقوط بوكروفسك؟
تقول صحيفة «صنداي تايمز»، إن «بوكروفسك» سقطت عمليًا بيد الروس، مشيرة إلى أن المدينة مطوّقة من ثلاث جهات، فيما تتقدم قوات موسكو تدريجيًا نحو مركزها.
وغالبًا ما تكون هناك رغبة في تصوير عملية بهذا الحجم — معركة استمرت 18 شهرًا — على أنها نقطة تحوّل في الحرب، لكن رغم أنها هزيمة لكييف، فإنه لا ينبغي النظر إليها كانتكاس حاسم، بحسب الصحيفة البريطانية.
ومع ذلك، فإن المعركة تحمل دلالات مهمة، وتعكس التحولات العملياتية والسياسية في هذه المرحلة من الصراع.
ويوم الأربعاء، أكد القائد العام الأوكراني، الجنرال أولكسندر سيرسكي، عبر فيسبوك، أنه «لا حديث عن سيطرة روسية على مدينة بوكروفسك أو عن تطويقٍ عملياتي لقوات الدفاع».
لكن، ومنذ ذلك الحين، ظهرت أدلة إضافية على تحرّكات روسية واسعة. ضابط بريطاني شارك في تقديم المشورة للأوكرانيين قال بنبرة متشائمة: «أعتقد أنه يمكننا القول إن هذه المعركة حُسمت لمصلحة موسكو».
وبالنظر إلى الطبيعة المتشابكة والمجزأة لهذه الحرب — حيث لا وجود لجبهات واضحة، والقتال يجري عبر مجموعات صغيرة وليس كتائب أو ألوية كاملة — لا يزال القتال مستمرًا داخل المدينة، إذ تصمد جيوب من القوات الأوكرانية أو تحاول الانسحاب بأمان.
لكن نقطة التحوّل الحقيقية تبدو أنها مضت بالفعل، ورغم أن فيلق آزوف الأول حقّق تقدمًا شمال بوكروفسك، يبدو أن فرص تنفيذ هجومٍ أوكراني معاكِس على المدينة ضئيلة.
ومع انهيار دفاعات بوكروفسك والبلدة المجاورة ميرنوهراد، ستستمر المعارك في شمال شرق أوكرانيا. فما زالت «المدن الحصينة» المتبقية في الجزء الأوكراني من دونيتسك صامدة، ويعتقد المراقبون الغربيون أنها ستستغرق وقتًا أطول قبل سقوطها مقارنة ببوكروفسك.
غير أن المعركة المقبلة قد لا تُخاض في شمال شرق أوكرانيا، بل في واشنطن.
رسالة إلى أمريكا
وبحسب الصحيفة البريطانية، فإن أحد أسباب استعداد الرئيس بوتين لدفع 150 ألف جندي نحو بوكروفسك، أنه يخوض حربًا ليست فقط ضد أوكرانيا، بل معركة إرادات مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وقد قال الرئيس الأوكراني زيلينسكي إن «روسيا تخشى القرارات الأمريكية القوية وتريد استخدام بوكروفسك لإظهار نجاحٍ ميداني». وهذا صحيح جزئيًا، لكن نوايا موسكو تبدو أقل ارتباطًا بتجنّب الضغط الأمريكي وأكثر بمحاولة استعادة دعم ترامب.
فالقرار الأمريكي الأخير بفرض عقوبات إضافية على النفط الروسي لا يعكس رغبة حقيقية في دعم كييف، بقدر ما يعكس محاولة لدفع موسكو إلى تقديم «تنازل» يسمح لترامب بالادعاء بأنه جعل السلام ممكنًا — وتقديم نفسه سيد «فن الصفقات».
فيما يحاول بوتين بدوره توجيه رسالة تحدٍّ: عبر استعراض أنظمة نووية جديدة، والآن عبر تحقيق نصرٍ ميداني آخر. الرسالة واضحة لترامب: موسكو، وليس كييف، هي الطرف المنتصر.
ورغم أن إجبار زيلينسكي على قبول اتفاق سلام بصيغةٍ يفضّلها ترامب قد يبدو صعبًا، فإن بوتين يأمل — إذا حصل على دعم أمريكي — أن يحصل على «المدن الحصينة» دون أن يضطر للقتال من أجلها.
ضباب الحرب
لقد ساعد الضباب الكثيف الروس في دفع هجومهم الأخير داخل بوكروفسك، إذ أعاق طائرات الاستطلاع والهجوم الأوكرانية المسيّرة. تقليديًا، كان الشتاء يرتبط بإبطاء وتيرة القتال بسبب الوحل وضعف الرؤية.
لكن حرب أوكرانيا — بما فيها من قتال فوضوي — أثبتت أنها مختلفة. فالروس يتأثرون بالطقس السيئ، لكن عندما تتراجع فعالية المسيّرات — حتى جزئيًا — يصبح الأوكرانيون الطرف الأضعف. فالتفوّق العددي الروسي وقدرته الأكبر على تدوير القوات تعطيه اليد العليا.
وقد يشهد الشتاء تصعيدًا في القتال بدلًا من التباطؤ الذي كان سيمنح الأوكرانيين فرصة لإعادة تنظيم صفوفهم.
أزمة أوكرانيا المتفاقمة
أظهرت معركة بوكروفسك أزمة أوكرانيا المتفاقمة في الموارد البشرية، بينما لا تزال موسكو قادرة — على ما يبدو — على تجنيد نحو 30 ألف جندي شهريًا لتعويض خسائرها.
وكما حدث كثيرًا، فإن التصميم الذي شكّل قوة أوكرانيا أصبح أيضًا نقطة ضعفها. فرفض كييف التخلي عن مواقع خاسرة جعلها تفوّت فرصًا لإنقاذ قواتها من تطويق روسي، واضطرت لسحب وحدات من جبهات أخرى لتعزيز الدفاع.
زيلينسكي رفض اتهامات بأن قواته «دُفعت للموت دفاعًا عن أطلال»، لكن جنودًا أوكرانيين عبّروا عبر مواقع التواصل عن غضبهم، قائلين: «مرة أخرى، يرفض جنرالاتنا الاعتراف بأن الوقت حان للانسحاب، ويتركوننا نقاتل معركة خاسرة بينما يمكننا أن نكون أكثر فاعلية في مكان آخر».
تقدم في الجنوب
وبسبب سحب القوات شمالًا، يحرز الروس تقدمًا ملحوظًا في الجنوب. ففرقة الدبابات 90 تتقدم عبر أراضٍ مفتوحة نحو هوليايبولي، حيث تلتقي مناطق دونيتسك ودنيبروبتروفسك وزابوريجيا. وهي الآن على بُعد نحو خمسة أميال من البلدة.
وكحال بوكروفسك، تُعد هوليايبولي مركزًا لوجستيًا أوكرانيًا. ورغم أن مصيرها غير محسوم إذا وصلت تعزيزات أوكرانية، فمن المرجح أن يأتي ذلك على حساب الحفاظ على المكاسب التي حققتها قوات آزوف شمالًا.
حقائق «قاسية»
وبحسب «صنداي تايمز»، فإن الحقيقة القاسية هي أن الأوكرانيين لا يملكون ما يكفي من الجنود لحماية كل نقاط الضعف على خطوطهم، لذا، تظل بوكروفسك — كغيرها — مدينة مهمة.
أما الجنود الروس الذين دخلوا المدينة على دراجات نارية مسروقة وسيارات مدنية معدّلة، فكان ذلك مجرد خطوة إضافية في مسيرة طويلة.
لكن السياق الأوسع للمعركة هو أنه في لحظة قد يكون الشتاء فيها في صالح الروس — وربما تتمكن الفرقة 90 من استخدام دباباتها — فإن كييف لا تزال تعاني نقصًا حادًا في الرجال، بينما تبقى «معركة كسب اهتمام ترامب» قائمة ولم تُحسم بعد.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=
جزيرة ام اند امز




