هذا ما حدث بولاية الجزيرة.. تحقيق موسع يوثق «جرائم مروعة» للجيش السوداني

أدلة مصورة ومقاطع فيديو، وشهادات من ناجين، إلى جانب صور من الأقمار الصناعية، ترسم لوحة مروعة لجرائم ارتكبها الجيش السوداني والمليشيات المتحالفة معه.
هذا ما كشف عنه تحقيق استقصائي مشترك نشر بشكل موسع، الثلاثاء، أجرته شبكة «سي إن إن» ومؤسسة الصحافة الاستقصائية «لايتهاوس ريبورتس» عن ما جرى في ولاية الجزيرة السودانية.
- تطهير عرقي ومقابر جماعية.. أدلة جديدة توثق «فظائع» الجيش السوداني بالجزيرة
- قوى مدنية تصعّد ضد «الحركة الإسلامية».. تصنيفها إرهابية ينهي حرب السودان
وأشارت الشبكة الأمريكية إلى أنه بينما تصدرت الاتهامات المنسوبة إلى قوات الدعم السريع واجهة التغطيات الدولية، بقيت الانتهاكات التي ارتكبتها القوات المسلحة السودانية بقيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، وحلفاؤها من الإخوان وأذرعها والمليشيات المتحالفة معها، بعيدة عن الضوء، حتى كشف التحقيق جانبا فقط من تلك الفظائع.
حملة منظمة تستهدف غير العرب
التحقيق خلص إلى أن القوات المسلحة السودانية ومليشيات متحالفة معها نفذت حملة عنف ذات دوافع عرقية استهدفت مجتمعات غير عربية، لا سيما «الكنابي»، وهم عمال زراعيون سود ينحدر كثير منهم من النوبة وغرب وجنوب السودان.
وتُظهر الأدلة التي جمعتها «سي إن إن» نمطًا متكررًا من القتل خارج القانون، والإعدامات الميدانية، والتخلص من الجثث بطرق ممنهجة، في عشرات القرى المنتشرة في ولاية الجزيرة.
أدلة مصورة: جثث في قنوات الري ومقابر جماعية
وثّق التحقيق مقاطع فيديو صادمة لجثث أُلقيت في قنوات الري، بعضها مجرد من الملابس، وأخرى مكبّلة الأيدي. كما أظهرت صور أخرى ضحايا دُفنوا في مقابر جماعية، في وقت أُحرقت فيه مجتمعات زراعية بأكملها.
ووفقًا لشهادات متطابقة، كان أي شخص يُشتبه في انتمائه إلى مجموعات غير عربية يُقتل فورًا دون تحقيق أو محاكمة.
تنسيق من مستويات عليا
مصادر مطلعة، من بينها مسؤولون أمنيون حاليون، أكدوا لـ«سي إن إن» أن هذه الحملة لم تكن أعمالًا عشوائية أو «انتهاكات فردية»، بل جرى تنسيقها من مستويات عليا داخل الدولة.
وتشير هذه المصادر إلى مشاركة عناصر من جهاز المخابرات العامة السوداني في تنسيق الهجمات داخل ولاية الجزيرة، كما أفاد أحدهم بأن عبد الفتاح البرهان أُبلغ بتفاصيل عمليات القتل.
ود مدني.. استعادة المدينة وبدء المجازر
في يناير/كانون الثاني 2025، تقدمت القوات المسلحة السودانية لاستعادة مدينة ود مدني من قوات الدعم السريع. ومع اقترابها من المدينة، بدأت تتكشف سلسلة من الفظائع.
مقاطع فيديو تحققت «سي إن إن» من مواقع تصويرها أظهرت قوات الجيش تتوقف في قرية كريبي، حيث جرى احتجاز شبان مدنيين، والاعتداء عليهم، واتهامهم بالانتماء إلى قوات الدعم السريع.
«جسر الشرطة»: من ساحة معركة إلى مسرح إعدام
عند تقاطع يُعرف باسم «جسر الشرطة»، أعادت «سي إن إن» تركيب الأحداث من خلال عدة مقاطع فيديو صُوّرت على مدى أيام.
في البداية، أظهرت المقاطع اشتباكات دامية وكمينًا استهدف مقاتلين من قوات الدعم السريع أثناء فرارهم من ود مدني. لكن المشهد التالي كان أكثر رعبًا: جثث متناثرة في الشارع، بعضها يرتدي زي قوات الدعم السريع، وأخرى بملابس مدنية.
أحد الرجال، مصاب وغير مسلح، شوهد ملقى على الأرض محاطًا بجنود، قبل أن يُطلق عليه الرصاص بعد ثوانٍ.
عشرات المدنيين يُعدمون بدم بارد
في اليوم التالي، وبعد أن استعاد الجيش السيطرة الكاملة على المنطقة، تحوّل فناء قريب من جسر الشرطة إلى مسرح لمجزرة جديدة.
عُثر على جثث ما لا يقل عن 50 شابًا، جميعهم مدنيون وغير مسلحين، بعضهم مصطف بمحاذاة الجدار، مع إصابات واضحة بطلقات نارية في الرأس.
وادعى أحد المقاتلين أن الضحايا «أجانب»، في تبرير يعكس البعد العرقي للهجوم، علمًا أن إعدام المدنيين أو الأسرى غير المسلحين يُعد جريمة حرب وفق القانون الدولي الإنساني.
شهادات من داخل جهاز المخابرات
توصل التحقيق إلى مُبلّغ عن المخالفات من داخل الصفوف العليا لجهاز المخابرات العامة السوداني، تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته.
وأكد أن الضحايا الذين قُتلوا عند جسر الشرطة دُفنوا في مقابر جماعية، مدنيين إلى جانب مقاتلي قوات الدعم السريع.
وقد دعمت صور أقمار صناعية، حللتها «سي إن إن» بالتعاون مع مختبر أبحاث الصحة العامة والإنسانية في كلية ييل للصحة العامة، هذه الرواية، حيث أظهرت خمس بقع حديثة من التربة المضطربة قرب موقع الجسر، مع مؤشرات على وجود جثث قبل ردمها.
التخلص من الجثث في قنوات الري
لم تقتصر أساليب التخلص من الضحايا على الدفن الجماعي.
مُبلّغ ثانٍ من جهاز المخابرات السوداني قال إن بعض المتهمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع أُعدموا ثم أُلقيت جثثهم في قنوات الري.
وفي قرية بيكة، الواقعة على بعد نحو أربعة أميال، وثقت مقاطع فيديو وجود ما لا يقل عن ثماني جثث عالقة داخل نظام القنوات ذاته، بعد أسبوع واحد فقط من استعادة الجيش السيطرة على ود مدني.
نمط متكرر في عشرات القرى
التحقيق خلص إلى أن ما جرى على طريق ود مدني لم يكن حادثًا معزولًا، بل جزءًا من حملة أوسع طالت ما لا يقل عن 39 قرية في ولاية الجزيرة.
وقد استهدفت الحملة بشكل خاص «الكنابي»، الذين غالبًا ما تصفهم ميليشيات متحالفة مع الجيش بأنهم «سود سودانيون»، في خطاب ينطوي على تحريض عنصري مباشر.
شهادات ناجين: «لن نترك أحدًا حيًا»
أحد الناجين قال لـ«سي إن إن»: «لا يريدون أي أشخاص سود هنا. قالوا نريد قتل الجميع، ولن نترك أحدًا».
وأضاف أن القتل كان يتم بإطلاق النار على الصدر قرب القلب أو على الظهر، مؤكدًا أن قنوات الري كانت تجلب «جثة أو جثتين كل بضعة أيام».

توصيف أممي: تطهير عرقي
عضو في بعثة تقصّي حقائق تابعة للأمم المتحدة وصف الحملة العسكرية في الجزيرة بأنها «إبادة مستهدفة على أساس عرقي»، مشيرًا إلى أن بعض الحالات ترقى إلى «التطهير العرقي»، وهو ما يعد جريمة حرب..
غياب المساءلة
في يناير/كانون الثاني، اكتفت القوات المسلحة السودانية بإدانة ما وصفته «انتهاكات فردية»، وأعلنت فتح تحقيق.
لكن حتى الآن، لم تُعلن نتائج واضحة، ولم تُحاسب أي جهة، فيما لا تزال العدالة بعيدة المنال بالنسبة لضحايا ولاية الجزيرة.
وكانت عضو المكتب التنفيذي لـ«محامو الطوارئ»، رحاب المبارك، في حديث لـ«العين الإخبارية» أكدت أن كثيرًا من الجرائم التي ارتكبتها المليشيات المتحالفة مع الجيش السوداني في ولاية الجزيرة، تمت بدوافع عرقية وسياسية، وتحت مرأى ومسامع قيادات الجيش السوداني.
واستدلت على أن ذلك بأن سكان ما يعرف بـ«الكنابي» في ولاية الجزيرة – وهم مجموعات سكانية من المزارعين والعمال في مشروع الجزيرة الزراعي، وينحدرون -غالبيتهم- من إقليم دارفور غربي السودان، تعرضوا إبان إعادة الجيش السوداني سيطرته على ولاية الجزيرة، إلى انتهاكات جسيمة، كانت تتم على أسس عرقية.
وأشارت إلى أن قوات «درع السودان» المتحالفة مع الجيش السوداني، والتي يقودها أبو عاقلة كيكل، مارست صنوفاً من الانتهاكات والقتل والتنكيل بسكان الكنابي، بحجة أنهم يمثلون حواضن اجتماعية لقوات الدعم السريع.
وكذلك تعرض كثير من المدنيين في ولاية الجزيرة لانتهاكات جسيمة، قامت بها مليشيات البراء بن مالك الإخوانية، بغرض تصفية حساباتها مع الخصوم السياسيين، وبزعم أنهم تعاونوا مع قوات الدعم السريع إبان فترة سيطرتها على ولاية الجزيرة، بحسب المبارك، التي أكدت أن الجيش السوداني نفسه كان قد اعترف بوجود جرائم وانتهاكات في ولاية الجزيرة، إلا أنه رفض دخول بعثات تقصي الحقائق إلى هناك، وخاصة بعد بروز تقارير تتحدث عن استخدامه للسلاح الكيماوي في ولاية الجزيرة.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=
جزيرة ام اند امز




