اسعار واسواق

«آيفون 17 برو» في غزة… رفاهية تعبر الحدود وجوع ينتظر الإذن


في غزة، حيث يُقاس الزمن بانتظار شاحنة إغاثة، يتجاور النقيضان على رفٍ واحد: هاتف ذكي لامع وسلة غذاء ناقصة.

مشهد يبدو سرياليًا لكنه واقعي؛ تُعرض أحدث طرازات «آيفون» في أسواق مؤقتة، بينما يتدفق الغذاء والدواء ببطء شديد إلى قطاع أنهكته الحرب والحصار.

هنا، لا تعكس السلع المعروضة رخاءً بقدر ما تكشف خللًا عميقًا في آليات العبور، حيث تصبح البضائع الصغيرة عالية الربحية أسهل مرورًا من الضروريات الثقيلة المُقيّدة.

هذا التناقض لا يختزل قصة استهلاك، بل يفتح نافذة على «اقتصاد مُشوَّه» تشكّله قيود الحدود والحوافز التجارية وفشل الاستجابة الإنسانية.

كيف؟

تقول شبكة «إن بي سي نيوز» الأمريكية، إن استيراد الهواتف صغيرة الحجم وذات الربحية العالية، أسهل للتجار مقارنة بالسلع الضخمة أو المقيّدة مثل حليب الأطفال أو الإمدادات الطبية أو مواد البناء.

فعلى جانب طريق مغبر في غزة، يتجمع عشرات الشبان، معظمهم من صغار السن، أمام واجهة متجر مؤقت، وتحت سقف من القماش المشمّع، تمتلئ خزائن عرض أكريليك بصناديق هواتف محمولة من الطرازات الفاخرة.

إنه مشهد سريالي: فلسطينيون، كثيرون منهم نازحون من منازلهم المدمّرة، يعانون سوء التغذية والمرض والبطالة في اقتصاد منهار، يُعرض عليهم أحدث إصدار من هاتف «آيفون 17 برو».

ووفقًا لزبائن في غزة، تُباع حتى الهواتف الاقتصادية بما يصل إلى 5 آلاف شيكل — نحو 1500 دولار — في وقت قفزت فيه الأسعار إلى عشرة أضعاف مثيلاتها في دول أخرى.

وبحسب الشبكة الأمريكية، فإن توافر سلع كمالية كهذه بينما يظل الغذاء أو الدواء نادرين في كثير من الأحيان، يعد أمرا يثير غضب عمال الإغاثة والفلسطينيين على حد سواء.

ازدواجية وحصار

ويقول خبراء إن ضوابط الحدود الإسرائيلية تجعل في كثير من الأحيان نقل البضائع التجارية أسهل من إدخال المساعدات الإنسانية.

ورغم زيادة التدفق خلال وقف إطلاق النار الهش بين إسرائيل وحماس، تؤكد الأمم المتحدة ومنظمات أخرى أنها ما زالت تواجه قيودًا خطيرة على المواد العاجلة.

وقال سمير كمال عوض أبو دقة (52 عامًا)، وهو عامل بناء سابق يعيل زوجته وأطفاله الخمسة: «لا نستطيع حتى شراء الطعام — فكيف يُفترض بنا شراء هواتف؟».

تعيش عائلته في مخيم خيام بمدينة خان يونس جنوب القطاع، حيث يتلقى أطفاله دروسًا في العربية باستخدام قطعة سبورة، ويتناولون الأرز في مطبخ خيري محلي. وتكشف سترته الرياضية الزرقاء الباهتة وشعره الخفيف وصوته الهادئ عمّا يصفه بحياة «تفوق الصعوبة».

وقالت منى جبريل، الباحثة في جامعة كامبريدج البريطانية والتي عاشت في غزة 22 عامًا، إن هذا التناقض ليس جديدًا على القطاع. وأضافت: «قبل الحرب وخلال الحصار، كانت هناك هواتف محمولة وسيارات فاخرة. لكن مع القيود الإضافية على الحدود، والدمار الهائل، والكارثة الإنسانية، يبرز هذا التناقض بشكل أوضح».

فلسطينيون في محل لبيع الهواتف المحمولة بغزة

ويمثل ذلك أحدث تطور في جهود إدخال المساعدات إلى غزة خلال وقف إطلاق النار المتقطع بين إسرائيل وحماس. وبينما يبدو أن خطة السلام التي طرحها الرئيس دونالد ترامب صامدة نسبيًا — رغم الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة — فإن الأزمة مستمرة.

وبحسب الأمم المتحدة، نزح تقريبًا كامل سكان القطاع البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، وتضرر أو دُمّر 80% من المباني، ودخل 9 آلاف طفل المستشفيات بسبب سوء التغذية في أكتوبر/تشرين الأول وحده.

وقد غيّر وقف إطلاق النار بعض الأمور؛ إذ دخل نحو 65 ألف منصة نقالة من المساعدات إلى غزة خلال الشهر الأول، أي ضعف الأسابيع الأربعة السابقة.

لكن معدات أساسية مثل الرافعات الشوكية ووحدات التخزين المتنقلة ما تزال «تُرفض بشكل منهجي من قبل السلطات الإسرائيلية»، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا).

قيود وتراكمات

كما لا تزال معدات طبية وحصص غذائية وإنارة تعمل بالطاقة الشمسية «تُمنع من الدخول على نطاق واسع» بسبب القيود الإسرائيلية والإجراءات الإدارية وتراكمات لوجستية.

وأظهر تحليل لأرقام إسرائيلية أجرته وكالة «أسوشيتد برس» أن هناك نقصًا في تسليم المساعدات؛ فبينما وافقت إسرائيل على إدخال 600 شاحنة يوميًا، بلغ المتوسط الفعلي 459 شاحنة.

ورفض منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي (كوغات) التعليق على بيع الهواتف في غزة، لكنه قال في بيان إن إسرائيل «ملتزمة بالكامل بتسهيل دخول شاحنات المساعدات الإنسانية وفقًا للاتفاق».

وردًا على تقرير لليونيسف أفاد بأن إسرائيل تقيد إدخال زجاجات حليب الأطفال والمحاقن باعتبارها ذات «استخدام مزدوج» مدني وعسكري، قالت إن «الادعاء بأن إسرائيل تقيد غذاء الأطفال لا أساس له».

فلسطينيون في محل لبيع الهواتف المحمولة بغزة

وانتقد سام روز، القائم بأعمال مدير شؤون غزة في وكالة «الأونروا»، ما وصفه بالنفاق والمعايير المزدوجة، حيث يُسمح بدخول السلع التجارية مثل الهواتف والسكوترات الكهربائية والأطعمة غير الصحية بسهولة أكبر من المساعدات الإنسانية.

وقال إن نظام المساعدات الذي تقوده الأمم المتحدة مقيّد بقواعد «الاستخدام المزدوج» والفحوص الإسرائيلية. وتُحظر الأونروا من العمل في القدس الشرقية والضفة الغربية بزعم اختراقها من حماس، وهو ما تنفيه الوكالة وقد قوبل بانتقادات دولية.

وأضاف روز متذمرًا من «كمّ كبير من الرداءة» المتاحة حاليًا في سوق غزة، مشيرًا إلى أن شحن السلع الطازجة «أكثر صعوبة وكلفة ومخاطرة».

أدوات حيوية

ومع ذلك، يرى البعض أن هواتف «آيفون» باتت أدوات تقنية حيوية تُستخدم في كل شيء، من تعليم الأطفال إلى متابعة الأخبار، في قطاع يعاني شح الكهرباء والمعلومات والإعلام.

وقالت جبريل إن غزة «تعمل بتقنية الجيل الثاني فقط»، موضحة أن إسرائيل التي تسيطر على شبكة الاتصالات لا تسمح بخدمات 3G أو 4G أو 5G. وأضافت: «ومع ذلك، الهاتف المحمول اليوم أهم من أي وقت مضى في غزة»، إذ يُعد ضروريًا للدراسة والتواصل في الطوارئ والاطمئنان على الأقارب في أنحاء القطاع.

وبحسب تانيا هاري، المديرة التنفيذية لمنظمة «غيشا» الحقوقية الإسرائيلية المتخصصة في حركة الأشخاص والبضائع عبر حدود غزة، فإن هناك سوقًا صغيرة لكنها مربحة بين التجار وقلة من الفلسطينيين الذين احتفظوا أو راكموا مبالغ نقدية كبيرة خلال الحرب.

وقالت إن هذه هي المرة الأولى منذ عامين التي يُسمح فيها بدخول الهواتف إلى غزة عبر قنوات رسمية، ما خلق حماسًا وطلبًا أكبر على الهواتف وملحقاتها. وكما في الغرب، يسعى بعضهم إلى المكانة التي يمنحها «آيفون»، وإن كانت هذه فئة ضئيلة جدًا.

وفي صباحٍ حديث، تزاحم عدد من تلك الفئة أمام منضدة متجر «تابيا» للهواتف في خان يونس. وبعد تدمير معارضه السابقة، يعمل المتجر الآن من هيكل مؤقت يشبه الخيمة بسقف قماشي ودعامات خشبية ومعدنية. وكان اسمه مطبوعًا على لافتة قماشية برتقالية وبيضاء.

يبيع المتجر طيفًا واسعًا من الأجهزة، من الطرازات الاقتصادية مثل «ريدمي A5» و«بوكو C71» من شركة «شاومي» الصينية، وصولًا إلى «آيفون 17 برو» الذي يتجاوز سعره ألف دولار في الولايات المتحدة.

وقال مالكه منذر أبو حمد إن الحرب وقيود الحدود والفوضى اللوجستية رفعت الأسعار سابقًا إلى أضعاف قيمتها، لكن تدفق الهواتف أدى لاحقًا إلى استقرارها نسبيًا.

سر الطلب المرتفع

وأضاف: «حاليًا هناك طلب مرتفع على الأجهزة، أولًا بسبب طلاب الثانوية العامة، وثانيًا لأن التعليم في غزة أصبح إلكترونيًا».

وقال إران ياشيف، الاقتصادي الإسرائيلي المتخصص في اقتصاد غزة، إن الهواتف صغيرة ومربحة، ما يجعل استيرادها أسهل من السلع الضخمة أو المقيّدة. وأضاف: «مجموعة صغيرة من المشترين الذين يملكون سيولة نقدية تخلق سوقًا يسعى التجار لخدمته، حتى بينما تواجه معظم الأسر نقصًا حادًا».

والنتيجة؟ «اقتصاد مشوّه تظهر فيه السلع الكمالية على الرفوف بينما تظل الإمدادات الأساسية مختنقة»، في انعكاس «لمزيج فوضوي من السيطرة السياسية والحوافز التجارية والفشل الإنساني الذي يميز غزة اليوم».

ومع استمرار القصف الإسرائيلي الذي يعطل كل جوانب الحياة — من التعليم والرعاية الصحية إلى الأخبار والترفيه — يعتمد سكان غزة بشكل متزايد على شاشاتهم للحصول على المعلومات وبعض التخفيف.

وقال فريد قبلان، الاقتصادي من خان يونس: «الهاتف المحمول هو الجهاز الوحيد الذي ينقل الحقيقة إلى العالم، ولذلك فهو منارة أساسية».

ويُعد مهند أحمد عبد الخفور (20 عامًا) مثالًا على ذلك. قال: «أستخدم هاتفي للقراءة والعمل وكل شيء. كل شيء يحتاج إلى هاتف». وأضاف أن جهازه القديم تضرر في الحرب «فاضطررت لشراء واحد».

وفي المقابل، يبدي بعض الفلسطينيين حذرًا وعدم ثقة، مستحضرين وصول التكنولوجيا السريع على خلفية انفجارات أجهزة النداء (البيجر) الجماعية في لبنان عام 2024، التي قُتل فيها العشرات وأُصيب نحو 1500 شخص، بحسب «حزب الله»، في عملية فُسرت على نطاق واسع كعمل استخباراتي إسرائيلي.

وقالت هاري من «غيشا»: «بعد ما حدث مع أجهزة البيجر، شخصيًا لن أقترب من تلك الهواتف أيضًا».

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=

جزيرة ام اند امز

NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى